الصحافيون… و«الأساليب الملتوية»* ياسر عبد العزيز
النشرة الدولية –
في مثل هذه الأيام قبل 25 عاماً، أذاعت «بي بي سي» مقابلة نادرة ومهمة مع الأميرة البريطانية الراحلة ديانا، التي كانت في تلك الأثناء إحدى أكثر الشخصيات العالمية جذباً للاهتمام وتمتعاً بالأضواء.
لقد حظيت تلك المقابلة باهتمام كبير بطبيعة الحال، وسجلت اختراقاً لافتاً لمصلحة هيئة الإذاعة البريطانية، حتى إن عدد مشاهديها بلغ آنذاك نحو 22.8 مليون مشاهد، لما احتوت عليه من أسرار خطيرة واعترافات حصرية اتسمت بالحساسية الشديدة، لاتصالها بحياة الأميرة العاطفية والزوجية.
من زاوية صحافية، فإن المراسل مارتن بشير، الذي أجرى تلك المقابلة من حقه أن يشعر بالفخر، لأنه ببساطة استطاع أن يقنع تلك الشخصية الجماهيرية ذات الشعبية الطاغية وصاحبة الموقع الرسمي الدقيق والحساس بأن تتحدث إليه بانفتاح، وأن تكشف تلك الأسرار المثيرة، فيسجل مجداً جديراً بالاعتداد، ويحقق اختراقاً إعلامياً وإعلانياً، في ضربة صحافية ناجحة ومؤثرة.
لكن ما جرى لاحقاً كان شيئاً مختلفاً، فبعد ربع القرن من تلك الواقعة المثيرة، طلب شقيق الأميرة، تشارلز سبنسر، التحقيق في الطريقة التي اتبعها الصحافي بشير لكي يحصل على تلك المقابلة من أخته الراحلة بكل ما حفلت به من ضجيج وإثارة. وقد أشار في طلبه هذا إلى أن بشير استخدم «أساليب ملتوية» للحصول على المقابلة، منها اطلاعه على «وثائق مزورة»، و«الادعاء كذباً بأن بعض موظفي الأميرة يتجسسون عليها». وهو الأمر الذي دفع «بي بي سي» إلى الإعلان عن تعيين قاضٍ مستقل لإجراء تحقيق في تلك الوقائع، كما تعهدت الهيئة البارزة باتخاذ الإجراءات اللازمة في حال ثبوت مخالفة الصحافي بشير للقواعد والقوانين المرعية عند إجرائه تلك المقابلة.
ليست هذه هي الواقعة الوحيدة التي تفجر الجدل بخصوص الأساليب التي يتبعها بعض الصحافيين لتحقيق الاختراقات الصحافية والحصول على السبق في وسط منافسة إعلامية شرس ومتطلب؛ ففي العام 2011 انشغل الوسط الإعلامي البريطاني والعالمي بواقعة أخرى مثيرة كانت بطلتها أسبوعية «نيوز أوف ذا وورلد»، وهي صحيفة «تابلويد» رائجة كانت توزّع أكثر من 3 ملايين نسخة أسبوعياً، قبل أن يقرر مالكها روبرت مردوخ إغلاقها تحت وطأة استهداف قضائي وحقوقي وتنظيمي عارم لما قيل آنذاك إنه «تجاوز وجرائم» ارتكبها صحافيون عاملون بها.
وفي تفاصيل ما جرى، أن صحافيين من «نيوز أوف ذا وورلد» حصلوا على معلومات مثيرة وحصرية تخص ضحايا جرائم عنف وعمليات إرهاب، عبر وقائع «تنصت» على هواتف أهالي الضحايا وبعض المشاهير. وما عمّق الأزمة أنها ارتبطت أيضاً بالكشف عن مدفوعات في صورة «رشى» لرجال شرطة، لتسهيل عمليات «التنصت» أو كشف معلومات «مصنفة سرية»، وهو الأمر الذي خضع لتحقيقات أجريت بواسطة القضاء وجهات تنظيم الإعلام البريطانية، ما دفع مردوخ إلى إغلاق الصحيفة.
تثير مثل تلك الوقائع جدلاً متجدداً حول الأساليب التي يتبعها بعض الصحافيين من أجل الحصول على محتوى إعلامي فريد وحصري ومنافس، ويقولون إن الغرض منها «صيانة حق الجمهور في المعرفة»، و«كشف الحقائق للرأي العام»، والتغلب على «إحجام المصادر»، تحت غطاء معروف يحظى بالاعتبار وهو «حرية الصحافة».
ومن جانب آخر، فإن كثيراً من الأكاديميات ومدونات السلوك النافذة لوسائل الإعلام المرموقة تشدد على ضرورة انتهاج أساليب النزاهة والأمانة عند ممارسة العمل الصحافي، بما يقتضيه ذلك من ضرورة الصدق مع المصادر وعدم اتباع الأساليب الملتوية للحصول على المعلومات والمقابلات.
ومع بروز تيار «الصحافة الاستقصائية» مطلع الألفية الحالية، وانطوائها على بعض الأساليب المُصممة لإنجاز تحقيقات تخص الفساد أو تغول السلطات، جرى الحديث أيضاً عن بعض الوسائل التي قد يستخدمها بعض الاستقصائيين؛ مثل التسجيلات السرية، وانتحال الشخصية، وانتهاك حرمة الأماكن الخاصة لبعض المصادر، بغرض «الكشف عن وقائع الفساد» وغيرها من التجاوزات.
وفي هذا الصدد، برز رأيان؛ أولهما أنه لا يجوز أبداً للصحافي انتهاك قواعد الأمانة والصدق مهما كانت العوائد على صعيد خدمة المصلحة العامة وصيانة حق الجمهور في المعرفة والكشف عن وقائع الفساد. وثانيهما أن ذلك يمكن أن يحدث وفق شروط صارمة، أهمها ثلاثة؛ الأول أن ينشأ اعتبار موضوعي يتصل بالمصلحة العامة لمقاربة تلك الوقائع صحافياً، وهو اعتبار لا ينطوي على المكاسب التجارية أو متطلبات المنافسة، والثاني أن تكون تلك هي الطريقة الوحيدة لكشف خفايا قصة ما، والثالث ألا تنطوي تلك المقاربة على إلحاق ضرر غير موضوعي بمصالح بعض الأطراف. وهو الرأي الذي أميل لصحته.
*نقلاً عن “الشرق الأوسط”