مهرجان بيروت للأفلام الفنية.. سباحة ضد تيار الموت الجاثم على الصدور
النشرة الدولية –
العرب – ميموزا العراوي –
عشرون فيلما فنيا حول الرقص، والفنون التشكيلية، والهندسة المعمارية، والآداب، والموسيقى هي خلاصة مهرجان بيروت للأفلام الفنية الوثائقية التي انطلقت فعاليات دورته السادسة، الخميس، وتتواصل حتى التاسع من ديسمبر الجاري.
وعن هذا الحدث الفني السنوي قالت أليس مغبغب صاحبة صالة “أليس مغبب” البيروتية، وهي مُطلقة ومنظمة المهرجان “يشمل المهرجان هذا العام أفلاما من عدة بلدان عربية وأوروبية يتم عرضها في مسرح مونو، بالعاصمة اللبنانية بيروت مع إلزامية ارتداء الكمامة والحجز المُسبق للأماكن والحفاظ على التباعد الاجتماعي، أما عناوين وبرمجة العروض فتُنشر على موقع المهرجان تباعا”.
ربما يسهّل نشر “ملف صحافي” على الصحافيين من مهمة الإعلان عن هكذا حدث. ولكن الكتابة غير الخبرية هي فعل آخر يستحقّه من دون شك هذا المهرجان الذي لا يمشي عكس التيار الذي يجرف معه كل شيء جميل يدعو إلى التفاؤل، ولكن يتدفّق في ماء التيار ليغربل ويصفّي ما أصاب الماء من ملوثات تُثقل أجساد اللبنانيين سنة بعد سنة.
كما في كل سنة ومنذ ستة أعوام مرت يعود مهرجان بيروت للأفلام الفنية كالخارج من غمار بحر الغرق مناديا “الأحياء” في العالم العربي بشكل عام وفي لبنان بشكل خاص للاحتفال بالحياة. علما أن لا احتفال صارخا بالحياة، إلا من خلال تجليات الموت بأشكاله المختلفة. أشكال من الموت يختبرها اللبناني على دفعات وعلى “مذاقات” مختلفة عبر السنين على أغصان الحياة الوارفة وسط انحدارات حادة يلتحفها الغموض والخوف من الآتي.
ولعل أكثر ما يمكن اقتباسه من البيان الصحافي المُفصّل للمهرجان، هو ما جاء في هذا المقتطف “ها نحن مجددا، رغم الوباء وصعوبات الحجر، رغم تدني المعنويات العامة، رغم الكآبة المقيمة؛ نعود بهذه الطبعة السادسة من BAFF، برسالة حب ولقاء ومودّات واجتماع في رحاب الإنسانية؛ رسالة اندماج مع الآخر، المختلف في فكره وإيمانه وجمالياته ونظرته إلى العالم”.
ويضيف البيان “هو الإيمان الثابت بصمود اللبنانيين وبسالتهم وصلابتهم، وأيضا في قدرتهم، وهم على هذه الحال، في الانفتاح على العالمية من خلال الفن والسينما؛ هذا الإيمان يشكّل جوهر عقيدتنا ومحرك سعينا. رغم الجائحة التي تضرب العالم من أقصاه إلى أقصاه؛ رغم الإقفال المديد لصالات العرض على أنواعها والمتاحف؛ فإن منتجي الوثائقيات الفنية تابعوا عملهم؛ والعصارة غنية، اخترنا منها كل جميل ورائع”.
ليس في ما قيل آنفا عن كون هذا المهرجان تحديا شخصيا وحامٍ من اليأس الجماعي أي مبالغة، حيث إنك تستشعر ذلك في كلمات أليس مغبغب عن المهرجان وظروف انطلاقته لهذه السنة أكثر من أية سنة سابقة.
ومن يعرف مؤسسة المهرجان، يعرف مدى الهدوء الذي تتميّز به شخصيتها عادة. هدوء لم نشهده اليوم، فقد لوّحه التوتّر من الحال العام ومن الإرهاق الذي كانت ظروف إطلاق المهرجان أحد أهم أسبابه.
وتضيف “مع تخلّف المصارف (البنوك) عن الدعم وعدم رغبة هيئة التنظيم التعامل مع مصارف أصابت اللبنانيين بوابل من المصائب إلى يومنا هذا. أتى الدعم المادي من مبادرات فردية وجمعيات داعمة دوما للمهرجان، مثل المؤسسة الثقافية الإيطالية، ومؤسسة غوته الألمانية. وأيضا من سفارة الولايات المتحدة الأميركية، وسفارة سويسرا، وسفارة إسبانيا وسفارة بلجيكا”.
وحول إن كانت الأفلام تعكس بطريقة أو بأخرى ما يحدث على أرض الواقع، أجابت مغبغب “الفن بحد ذاته يواجه الواقع، ولاسيما الواقع المثقل بالأحزان، فالحياة هي الأقوى والفن هو الصوت الذي يبقى صامدا أمام جميع أشكال الموت، ومُفعّلا لأدنى نبضة حياة إذ يريد أن ينهي الكوابيس”. وتضيف قائلة “هناك فيلمان لليلة الافتتاح. عن سيرة الموسيقي الألماني لودفيغ فان بيتهوفن في ذكرى مرور 250 عاما على ولادته. هذا بحد ذاته رسالة ضد الموت واليأس. موسيقار عبقري أصمّ أنتج رائعته “نشيد الفرح” من قلب الصمت المُدقع”.
ويورد البيان الصحافي حول أحد الفلمين “يتابع الوثائقي (على خطى التاسعة) وقع السيمفونية الكبير في المجتمعات الحديثة. كتبها المؤلف سنة 1824، عند مغارب حياته؛ هي عمل إنسان يعيش العزلة، على كل الأصعدة؛ محروم من الحب، والسعادة العائلية ويعاني إعاقة الطرش الكامل؛ من وسط هذه التعاسة ألّف وقدّم إلى الإنسانية (نشيد الفرح). هذا النشيد الناضح بالأمل ألهم الكثير من الحركات الشعبية؛ وصدح من ساحة تياننمن إلى جوار برلين؛ من مقاومي الدكتاتور في تشيلي إلى مقاومي التسونامي في اليابان! يطرح الوثائقي مسألة قوة الفن وعالمية العمل الاستثنائي”.
ومن الأفلام التي تم اختيارها للعرض وتستوفي شروط الانتماء إلى جرح لبناني طازج هو فيلم “مدينة وامرأة” للمخرج اللبناني نيكولا خوري عن رسالة كتبتها الأديبة والفنانة التشكيلية اللبنانية أتيل عدنان في مطلع التسعينات، يطابق مضمونها ما حصل في بيروت بعد 4 أغسطس الماضي. وهو فيلم وثائقي قصير تحقّق بدعم مشترك بين سفارة الولايات المتحدة الأميركية وغاليري أليس مغبغب.
ومن ضمن الاتساق مع الواقع المأزوم تخبرنا مغبغب عن فيلم “الفتاة ذات حبة اللؤلؤ” نسبة إلى تحفة الفنان الهولندي يوهانس فيرمير، وأن منظمي المهرجان أدرجوه كتحية لزوجة سفير هولندا التي قضت في انفجار 4 أغسطس، ولكن ليس قبل أن تطلب وهي على فراش الموت في المستشفى بأن تُوهب أعضاؤها إلى الجرحى اللبنانيين.
ومن الأفلام المعروضة نذكر أيضا فيلم عن الفنان الأميركي مارك روتكو وآخر عن الفنان التشكيلي الفرنسي أوغست رينوار، وفيلم “الرجل الذي باع ظهره” للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، ويتناول الفيلم قصة مهاجر سوري غادر بلده هربا من الحرب إلى لبنان على أمل السفر منه إلى أوروبا، حيث تعيش حبيبته، وفي سبيل ذلك يقبل أن يرسم له أحد أشهر الفنانين المعاصرين وشما على ظهره ليتحوّل جسده إلى تحفة فنية، لكنه يدرك بعد ذلك أنه فقد حريته من جديد بسبب القرار الذي اتخذه.
وتتطلّع مغبغب وكذلك الجمهور اللبناني إلى هذا الحدث الفني ترقبا واهتماما مقترنا بتمنيات النجاة من حالة اليأس عبر الفن وعالمه المفتوح على كل الاحتمالات حيث يذكّر دائما، “بأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، كما قال الشاعر الراحل محمود درويش.