الذباب والتهتول والفارس: مصطلحات في الثقافة السياسية بين الشباب، والإعلاميين والسياسيين

النشرة الدولية –

دياليكتيك

حياة الحريري –

في السنوات القليلة الماضية، برزت مصطلحات باتت عرفا في التغريد السياسي على وسائل التواصل الاجتماعي وتحديدا على منصة “تويتر”، وباتت تستخدم بشكل كبير ليس فقط بين المغرّدين الشباب، بل أيضا تبّناها وغذّاها الإعلاميون والسياسيون حتى أضحت اليوم “برانديغ السياسة” في لبنان.

يعرف السياسيون ومعهم الإعلاميون في لبنان اللعب على وتر العاطفة السياسية وخاصة في المناطق التي تشهد حالة الارتباط التاريخي بين الناس والزعيم. ففي لبنان، كغيره من الدول العربية، تتحكّم العاطفة بشكل عام في صناعة الوعي السياسيّ الجماعيّ، بحيث يصبح من الصعب فصل الجانب الشخصي أو العاطفة الشخصية عن خيارات الناس. بالطبع، ثمة عوامل كثيرة في لبنان كانت وما تزال السبب الرئيسي في محافظة الأحزاب السياسية في لبنان على جمهورها وقوّتها رغم كلّ الخطايا التي ترتكبها. فلولا هذه العاطفة التي تغذيها عوامل كثيرة جغرافية ومناطقية وطائفية ومذهبية والتي أنتجت ما يعرف بالزبائنية السياسية، لكانت هذه الأحزاب إن لم نقل انتهت سياسيا أو ضعفت سيطرتها على الدولة، قد تعرّضت بالحدّ الأدنى للمحاسبة الشعبية وأجبرت بفعل محاسبة المناصرين لها على التغيير والتطوّر وصولا إلى حسن اختيار ممثلين في مؤسسات الدولة يعملون لمصلحة الناس وليس للمقرّبين والسمسرات والسرقات وغيرها. ويلعب الإعلام الدور الأبرز إمّا في اللعب على هذه العاطفة تبعا للمصالح الشخصية والتجارية والسياسية المتداخلة، أم في إعادة توجيه الوعي السياسيّ من خلال عرض الوقائع بلغة صحافية صحيحة خالية من الشعر والمعلّقات الشعرية والعتابا في نشرات الأخبار وفي مقدّمات الإعلاميين في برامجهم. في لبنان، غالبا ما يغلب الاحتمال الأوّل على السياسات الإعلامية حتى بات الإعلاميون أنفسهم ومنهم من له خبرة طويلة في المهنة أسرى هذه المصطلحات التي انتشرت على محطات التلفزة وفي الصحف في وصف أهل السياسية في لبنان.

على سبيل المثال لا الحصر، نسمع ونقرأ عبارات في وصف شخصية سياسية أم ظاهرة مثل “موقف سياسي رجولي”، “الرجل الرجل في السياسة”. أيضا، يحضر مصطلح “الفروسية” في وصف موقف أم شخصية سياسية للتدليل على مصداقية الفعل أم الشخص. هذا المدح الرومانسيّ الذي بدأ إعلاميا في لبنان، تلّقفه جيّدا أهل الساسة فباتوا ينسبون مثل هذه المصطلحات إلى مواقفهم أو إلى حلفائهم وأصدقإئهم في العمل السياسيّ. غير أن الخطورة تكمن في خداع جيل برّمته اليوم من خلال ترسيخ ثقافة المصطلحات هذه التي لا تمتّ إلى السياسة ولا إلى أدبيات العمل في الشأن العام بصلة، حتى أضحت جزءا لا يتجزّأ في الخيار السياسيّ أو في تبرير أخطاء السياسيين ومواقفهم بحيث يتبارى المحبّون في تبريرها وفي الدفاع عنها أو مدحها إذا كانت في نظرهم صائبة، وهي دوما كذلك. من هنا، لا يتمّ التعبير لسياسيّ ما عن المحبة أو الإعجاب على وسائل التواصل الاجتماعيّ بسبب عمله أو المشاريع التي وعد بها وطبّقها، بل بسبب “فروسيته” في العمل السياسي أو “طيبته” أو “قربه من الناس”. وينطبق هذا السلوك أيضا في تبرير الجمهور لسياسيّ ما عبر التغريدات موقفا اعتبره البعض خاطئا أم متناقضا بالتذكير بالميزات الشخصية للسياسيّ مثل الصدق والرجولة والفروسية والتواضع وغيرها من الصفات. في المقابل، إن “تجرّأ” أحد على توجيه النقد حتى وإن كان بنّاء، تفتح عليه جبهة في أوصاف الذّم التي باتت أيضا من بديهيات ثقافة التغريد السياسي مثل “التهتول” و”اللحيس” وغيرها! هنا، ثمة علاقة تكاملية في التأثير بين الإعلاميّ والسياسيّ من جهة، وبين جبهات أو مجموعات وسائل التواصل الاجتماعي. فكما نجح الإعلاميون والساسة في اللعب على العاطفة للاستقطاب السياسيّ، نجح المغرّدون الذين ساهموا بتعميم مصطلحات الذمّ هذه في التأثير على الإعلاميين والسياسيين الذين بتنا نقرأ على صفحاتهم الخاصة أم نسمع من خلال برامجهم ومقابلاتهم عبارات في الوصف في معرض ردّهم على منتقديهم لا تليق لا بشخصهم ولا بموقعهم ولا بمسؤوليتهم.

إن التأثير السلبي في تعميم هذه المصطلحات لا يقف فقط عند حدود ضعف الحجة لمن يستخدمها، بل إلى المساهمة في تفريغ وتشويه الوعي الثقافيّ عند شبابنا وهم لا يحتاجون إلى عوامل إضافية في التخبط الثقافيّ والسياسيّ. حاولت البحث عن المرة الأولى التي استخدمت فيها هذه المصطلحات وهنا، لعلّ هناك من يفيدنا من القرّاء في مشاركتنا المعرفة والتحليل حول أصل هذه الاستخدامات وعواملها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من منطلق علم النفس الاجتماعيّ والسياسيّ لنشرها.

أمّا المصطلح الأكثر انتشارا في السنوات القليلة الماضية، فهو “الذباب الالكترونيّ”. في بحث صغير، يتبيّن أن هذا المصطلح كثر استخدامه أو انتشر في الدول العربيّة على أثر الأزمة الخليجية القطرية. وهو يرتبط، بتعريف سوسيولوجيا الإعلام، بحسابات وهمية مبرمجة لاستخدامها في معركة كسب الرأي العام على وسائل التواصل الاجتماعيّ وتوجيهه في منحى أو موقف معيّن أكان في مواجهة سياسية ما أم لتجميل صورة سياسيّ أم دولة بحيث يتمّ استخدام برمجيات لانتشار وتفاعل تغريدات هذه الحسابات الوهمية لتكون “التراند”.

يطيب للسياسيّين استخدام مختلف المصطلحات التي تصبّ في مصلحتهم في سياق المنافسة السياسية التي تدغدغ العواطف على اختلافها، إلا أنه لا يمكن فهم استمرار التواطؤ الإعلامي إذا صحّ التعبير عبر تغريدات ومواقف لإعلاميين على ضفتيّ الجبهات السياسيّة. فالتأثير السلوكيّ الذي يساهم هؤلاء بصناعته من خلال مواقفهم الشخصية عبر اللجوء إلى مثل هذه المصطلحات التي تكاد تكون “ماركة مسجّلة” في أدب الإعلام السياسي اللبناني لن تحمد عقباها مستقبليا على كافة المستويات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية. فلعبة وسائل التواصل الاجتماعي في صناعة الرأي العام وفي التأثير السلوكي والثقافي لمجتمع ما هو أحد الأسلحة الأكثر خطورة في حاضرنا، وأهل السياسية والإعلام يعرفون ذلك جيّدا. فأي مجتمع نريد؟

ملاحظة: أعترف أنني وقعت في فخ “الرومانسية السياسية” في مرحلة ما في حياتي في تغريداتي وفي كتابتي لعدد من المقالات سابقا.

-محاضرة جامعية في الإعلام

-باحثة دكتوراه في التاريخ والعلاقات الدولية

-المؤسسة والمديرة التنفيذية ل “دياليكتيك”

زر الذهاب إلى الأعلى