فاطمة بن محمود: من لم يملك الجرأة داخل نصه، عليه أن يبحث عن عمل آخر أو يصمت

النشرة الدولية –

حاورها: عبدالله المتقي –

فاطمة بن محمود أصيلة تونس، كاتبة متعددة، تطل على العالم من ثقب الباب بروقا قصصية قصيرة وصغيرة جدا، قد تكتب خراطيش شعرية وامضة وخاطفة، وقد تطير ملء السماء والأرض كي تكتب سردا بنفس طويل.

تلك هي فاطمة القلقة، لا شيء يعنيها سوى أن تكتب وتنكتب، ولا يعنيها سوى النص الجميل، وطفولتها التي تتغذى منها، لأن الطفولة قبعتها السحرية ونصها الثاني .

وتلك هي فاطمة الماطرة التي صدرت لها قصص وجيزة « من ثقب الباب» و» الغابة في البيت « ،ومن الومضات الشعرية البارقة « الوردة التي .. لا أسميها « و» ما لا تقدر عليه الريح « ، ثم أنفاس سردية طويلة ، « امرأة في زمن الثورة « شهادات ، وأخيرا « رواية « الملائكة لا تطير»، التي وصلت، في صنف المخطوط، إلى القائمة القصيرة في واحدة من أهم المسابقات العربية «جائزة راشد الشرقي بالامارات».

حول تجربتها وسيرة كتابتها وقلقها وطقوسها وزمن الوباء والتطرف، كان لنا معها هذا اللقاء

  • من أنت يا فاطمة في خضم هذا الوباء والحروب المشتعلة، وهذا التطرف الذي زُرع في الأرض ؟

يقول الشاعر الداغستاني الكبير رسول حمزاتوف «أن العالم يبدأ من عتبة بيتي» وأنا أعتقد أن العالم يبدأ من ذاتي، لذلك من أصعب الأسئلة التي يمكن أن تُطرح على المرء «من هو» . خارج التعريف التقليدي أجد هذا السؤال مهما لأنه يجب على المرء أن يعرف ذاته أولا حتى يستطيع أن يحدد موقعه في خريطة العالم، و أن يحدد أشكال التواصل المختلفة مع أناه ومع الآخر، لذلك أنا من الأشخاص الذين يتحدثون مع أنفسهم، أتحدث كثيرا مع نفسي خاصة عندما أكون وحدي لأني أريد أن أتعرف على نفسي دون وسائط. قد يرى العامة أن في ذلك نوعا من الجنون ويراه علم النفس نوعا من الإلهام، أما الفلسفة فيقول أرسطو إن حديث النفس مع ذاتها «يعني جوهر الفكر» وذلك في رده على سؤال طرحه عليه ثياتيتوس.

  • من أي باب دخلت ورشة الكتابة؟

في الفترة التي كنت ألج فيها مرحلة المراهقة بدأ ولعي بالكتابة، كانت طريقة رومنسية لأغادر مرحلة الطفولة. والآن وأنا أتذكر ذلك، أعتقد أني ارتكبت حماقة. أحاول أن أكفر عنها بالكتابة مرة أخرى، لذلك أنا أكتب حتى أستعيد طفولتي التي كما يقول فرويد لا تذهب إلى الأبد، ولذلك نعاها ديكارت فقال «إن مأساة الإنسان إنه يولد طفلا» لأنه يظل مثقلا بالإرث الثقافي. ولعل من ميزة الكتابة أنها وحدها تمكننا من استعادة طفولتنا والعودة لنعيشها مرة أخرى ونتغذى منها، ثم في أرض معولمة يحتاج الإنسان فعلا أن ينعزل عن الضجيج ليستعيد طفولته بما هي لحظة بيضاء ومضيئة وخالية من التلوث.

  • ما الذي منحتِ الكتابة وما الذي منحتك إياه؟

العلاقة لم تكن يوما متكافئة بيني وبين الكتابة، ربما النزعة البراغماتية التي تسكن الإنسان تجعله يأخذ أكثر مما يعطي لذلك منحتني الكتابة الكثير، أهمها أنها جعلتني في علاقة متواصلة مع طفولتي، وبذلك جعلتني في حالة دهشة لا تنطفئ، هذا يجعلني أتسامح كثيرا مع نفسي بل أحب أخطائي وذنوبي وحماقاتي التي أرتكبها في الحياة ولذلك أحتفي بها في نصوصي.

أذكر أنه عندما صرخ جلجامش «يا إلهي إذا كان الخلود ليس في متناول أحد، فلماذا منحتني التوق اليه».. لذلك أستفيد من الكتابة فأجعلها تغذي هذا التوق وهو ما يمكن الإنسان من الخلود، وبالتالي يصبح عمره البيولوجي مجرد لحظات لكنها تحمل معاني كثيرة.

أيضا أستحضر الآن ما فعله نيتشه بمطرقته، الفلسفة كانت ولا تزال تحتاج مطرقة نيتشه لتتقن فعل الهدم وأنا أعتقد أن الكتابة هي تحويل العالم إلى نص بحيث يصبح المقص ضرورة (مثل مطرقة نيتشة)، بل أعتبر أن المقص أهم من القلم. في أحيان كثيرة، نحتاج أن نقص العالم إلى قطع صغيرة ونعيد ترتيبها وفق رؤية جمالية مختلفة، وبعدها نكتب.

في المقابل لم أمنح الكتابة غير الكثير من الأحلام التي عوض أن تتناقص، فإنها في واقعنا العربي المتأزم تتراكم غير أن قيمة هذه الأحلام أنها لا تسقط بفعل التقادم.

لا يفوتني أن أقول إن فعل الكتابة لدى المرأة في مجتمعاتنا العربية يتحول إلى معجزة حقيقية لأن العوائق أكثر مما نذكرها.

  • أنت كاتبة متعددة، شاعرة وقاصة وروائية ولك اشتغال في النقد. فأين تبنين خيمتك وتستريحين؟

جربتُ الكتابة في أكثر من نمط أدبي، إضافة إلى الرسائل الأدبية والمقالات الصحفية وتجربة أخرى أعتكف عليها الآن هي اليوميات (وإن كانت جميعها مخطوطات) ولازالت نوافذي مشرّعة لاكتشاف طرق جديدة أحب أن أمشي فيها، لكن أنا لا أسكن في أي واحدة مما ذكرت. أنا أعبرها دون أن أسكنها، السَكن من السُكون والسُكون قتل عنيف للمبدع لذلك كان الأديب الكبير محمود المسعدي يتحدث على لسان بطله في روايته الشهيرة « حدث أبو هريرة قال..» يقول « كان أبو هريرة كالماء يجري، لم نقف له على وقفة قط»، كما أن السَكن من السَكينة والسَكينة أفضل طريقة لدفن الكاتب لذلك كان المتنبي ينشد « على قلق كأن الريح تحتي».

  • أنت عاشقة للوجيز من ومضات كالخراطيش وقصص قصيرة جدا كأنها اختلاسات من ثقب الباب. فما حكاية هذا العشق للقصير جدا؟

ربما أفاجئك إن قلت أني نظريا لستُ معنية كثيرا بالأدب الوجيز في ذاته، لذلك علينا أن نحذر أنه لا يوجد حكم تفاضلي بين الأدب الوجيز وغيره. لا القصير يعني أنه الأسرع في المراوغة، وبالتالي الأقدر على الوصول الى المرمى، ولا الطويل له أن يتباهى بقامته المديدة وأنه أفضل من يصل إلى المرمى. قوة النص تكمن في لمسة سحرية وهي التي تصنع عمقه وتثير دهشة قارئه.

بالنسبة لي، عمليا، أميل إلى الأدب الوجيز لأني ببساطة على قلق مستمر، لا أستطيع مثلا أن أبقى طويلا في حالة قراءة نص مهما كان مثيرا، والمشكلة أني أفترض القارئ كذلك، لهذا أسعى الى كسب رهان الأدب الوجيز من خلال تكثيف المعنى و الاقتصاد في اللغة، ويرى الكثير من القراء أني وفقت في ذلك، لكن في روايتي الصادرة حديثا «الملائكة لا تطير» فاجأت نفسي واندهش القراء لأني لم أقدم عملا موجزا.

  • هل مازال ليلك الشعري نائما ووردتك المجازية لا اسم لها ورياح استعارتك غير قادرة؟

سؤالك يلمّح الى بعض من إصداراتي الأدبية وتحديدا دواوين «لا توقظ الليل» و»الوردة التي لا أسميها» و «ما لا تقدر عليه الريح».. أعتقد أن الكتاب عندما يخرج من المطبعة يصبح ملك القارئ، وبالتالي ينتقل إلى منطقة أخرى خارج اهتماماتي، فقط أقصى ما أقوم به لأجله أن أرجو له التوفيق في مسيرته وأن ينجح في الاستحواذ على قراء جدد. لا يجب أن أشغل نفسي به بعد أن يتحول إلى كتاب لأني عادة سأكون منشغلة بالكتابة. أتذكر الآن ما قالته الروائية الإنجليزية شارلوت برونتي «سأقوم بالكتابة لأني لا أستطيع التوقف»..

  • هل تذكرين هواجسك الأولى عند كتابة إصدارك السردي الأول « امرأة في زمن الثورة» وما الذي بقي في ذاكرتك الآن؟

أتذكر تلك الفترة جيدا، وما حدث أني لم أكن أنوي الكتابة عما يسمى بالثورة في تونس، كنت في حالة من الدهشة مما يحدث و في قلق شديد عما يمكن أن يحدث، فجأة اتصل بي الكاتب والإعلامي العراقي حكمت الحاج وطلب مني مقالة عن تفاعلي مع تلك الأحداث، كان ذلك أشبه بوخزة خفيفة وعندها انتبهت أن ما أعيشه لا يمكن أن تستوعبه مقالة لذلك تحولت المقالة الى كتاب سردي كان أول شهادة أدبية باللغة العربية عن « الثورة في تونس» و قد لقي اهتماما من النقاد في تونس وخارجها. في المقابل وجد حكمت الحاج نفسه أمام مجموعة من المقالات الهامة التي مثلت مدونة ضرورية لتأريخ اللحظة، فتحول الى مجلد ضخم نشرته دار الزمان في لندن وشارك فيه أهم الكتاب العرب مثل سعيد يقطين وغيره..

بالنسبة لي، أفضل ما في الأمر ليس كتابتي لنص روائي عن الثورة بل اكتشافي أني أستطيع الكتابة السردية لذلك « الثورة « التي عشتها أنتجت ثورة في مسيرتي الأدبية وهذا أفضل ما غنمته من «الربيع العربي»…

أعتبر أن أحداث الربيع العربي من التواريخ الهامة في تاريخ تونس، وأعتبر نفسي محظوظة أني عشتها، نحن لا نصادف الأحداث التاريخية دائما وشعوبنا لا تعيش « الثورات « كل يوم لذلك ما تبقى من تلك التجربة الحياتية والسردية هو تماما ما يتبقى من قصص الحب: كثير من الصور الرائعة واللحظات الجميلة التي تختلط فيها الدموع بالابتسامات ويمتزج فيها الفرح بالإحباط..

  • من مزايا شخصيتك في الكتابة هي السخرية السوداء، كيف تكونت ملامح هذا العنصر في شخصيتك؟ وما مصدر هذه المرارة؟

يقول الروائي البريطاني كازو إيشيغورو الحائز على جائزة نوبل للأدب لسنة 2017 « الحزن ملازم للحالة البشرية « بمعنى أن الانفعالات الوجدانية لا يمكن أن نسحبها على الحيوان مثلا لأنه لا يملك القدرة على تمثلها، لذلك تفاعله يكون غريزيا عكس الإنسان الذي يتمثل انفعالاته ويتحكم فيها ويعبر عنها، وضمن مجموع الانفعالات يعتبر الحزن حالة خصبة بامتياز. حتى نفهم هذا، افترض معي أن تتحدث عن امرأة سعيدة تبدو الصورة باهتة ماذا يمكن أن نقول عن امرأة سعيدة، في حين أن الوضع مختلف تماما، تحتشد الأفكار وتزدحم الألفاظ إذا أردنا أن نتحدث عن امرأة حزينة لهذا أقول دائما الفرح عاقر. لذلك كان هيمنغواي يقول «ليست الكتابة بالأمر الصعب، ما عليك سوى أن تجلس أمام الآلة الكاتبة وتبدأ بالنزيف»..

بالنسبة لي لا أعتقد أن هذا التصور يعود لحالة الاكتئاب الذي يبدو في الظاهر صديقا لي يزورني باستمرار. في الحقيقة هو عدو يؤلمني دائما ولذلك يمنحني مبررا لطرده. وأعتقد أن هذا أحد أهم أسباب الكتابة عندي، لا أحب أن أقول إن الكتابة حالة استشفائية بالنسبة لي ولكن قد تكون تلك إحدى وظائفها.

  • بعد هذه التجربة لسنوات في الكتابة في الشعر والسرد والقصة، من هو المبدع بالنسبة لك؟

أنا مثلك أطرح هذا السؤال «من هو المبدع»، لأني أشعر ببساطة أني لا أعرف، أصلا لا تعنيني التعريفات، وإن حاولت سأجد أنها تستغرق مني الكثير من الوقت والطاقة ولن أضيف الجديد عن التعريفات التي نجدها في القواميس و الكتب، هنا أستحضر جيدا مقولة هيدغر عندما اعتبر أن سؤال «ما الفلسفة» سيئ الطرح ويجب أن نصححه بالتساؤل «عن التفلسف»، أي عوض أن نحوم حول الفلسفة يجب ـن ندخلها. أعتقد أيضا أن سؤال «من هو المبدع» سؤال سيء الطرح و يجب أن نصححه بالتساؤل عن «الإبداع» وبذلك نتخلص من التفكير حول المبدع كمفهوم للتفكير داخل الفعل الإبداعي ذاته بما هو حركة واعية، هذا الفعل لا يتحدد من خارج الممارسة الإبداعية بل من داخلها، لذلك أعتقد أن هناك مفاهيم ثابتة في الابداع ولكن هناك خصائص مختلفة من مبدع إلى آخر ، أعتقد أن على المبدع أن يكتب ثم يأتي دور الناقد ليبحث في ما يخص العملية الإبداعية. طبعا لا يجب أن يجعلنا هذا نعتقد أن المبدع يكتب دون تصور وتمثل بل أقول أن عليه أن لا ينشغل بغير الكتابة ويترك لغيره من النقاد مهمة البناء النظري للمفهوم وما جاوره.

  • »الملائكة لا تطير» هو عنوانك روايتك الأخيرة، من أي أرض جئت بهذا العنوان المعلق في سقف الغلاف؟

عادة يأتي العنوان بطريقتين: إما من خارج النص لإضاءة بارانومية عليه، وإما يأتي من داخل النص أي النص هو الذي ينتج الفكرة التي تقوله. في الحالتين يمثل العنوان عتبة مهمة في قراءة النص.

شخصيا أهتم كثيرا بعناوين كتبي ولستُ نمطية في اختيارها أي لا أعتمد طريقة واحدة لاختياره. وعادة ما تفرض طبيعة النص ملامح العنوان الممكن. بالنسبة لرواية « الملائكة لا تطير» العنوان يأتي من داخل النص الادبي، تأتي به الشخصية الرئيسية لنور، الطفلة التي كبرت في عائلة سلفية متشددة لم تسمح لها أن تعيش حياتها لذلك سُلّت منها أحلامها واضطهدت بأشكال مريعة باسم الجهل المقدس. أعتقد أن هذا العنوان نجح في لفت الانتباه للرواية. ربما لأنه غير مجتر وربما لأنه استفزازي أيضا، أذكر أن إحدى دور النشر في بلد صديق اشترطت عليّ تغيير العنوان لتنظر في الرواية.

ما يهمني شخصيا أ لا أخذل القراء وأن يجدوا في « الملائكة لا تطير» الأسئلة التي تحتاج أن نفكر فيها بجدية.

  • تؤكّد لنا روايتك أن تجاوز المحرّمات لا يزال يحتاج إلى جرأة استثنائية، حتّى في زمن نزعم فيه أنّنا ننعم بالحريّة، ما تعليقك؟ وانت تكتبين، ألا تخافين الرقيب؟

سُئل مرة الروائي الكبير محمد شكري هذا السؤال فرد «إن الكتابة ليست نزهة بل مسيرة احتجاج» وهذا يعني أن الكاتب لا يحافظ على ما هو موجود، بل يأتي لتقويضه ولا يمكنه ذلك إلا بتجاوز لكل سلطة تواجهه.

n في لقاء حواري تلفزيوني استضافني فيه المبدع والإعلامي ياسين عدنان في برنامجه الشهير وقتها «مشارف» أذكر أن أحد أسئلته تحدث على أساس أن هناك حرية تعبير في تونس، وقد أجبته وقتها أنه لا يمكن أن نتحدث عن الحريات إلا اذا كانت مضمونة قانونيا، بمعنى أن ما نراه من حرية تعبير الآن في تونس يتم بشكل عفوي وفوضوي أيضا، فالأفواه كانت مكممة جيدا والآن تحررت من قيودها لكن لا توجد قوانين تحميها. الوضع السياسي في البلاد مرتبك و لايزال السياسيون، على اختلاف توجهاتهم، يبحثون عن تموقع جيد يسمح لهم بالدكتاتورية من جديد، بمعنى أن السياسي منشغل بالوصول الى الكرسي أولا و الحفاظ عليه ثانيا، وفي الاثناء أنا أستغل فرصة انشغالهم لأكتب بحرية لكنها حرية هشة لأنها كما قلت ليست مؤسسة قانونيا.

لاحظ الكثير من النقاد خاصة بعد صدور روايتي «الملائكة لا تطير» أني أكتب بجرأة، لكن يجب أن نفهم أن هذه الجرأة ليست بطولة مني بل تلك أحد شروط المبدع، ومن لم يملك الجرأة داخل، نصه عليه أن يبحث عن عمل آخر أو يصمت. في الحالتين عليه أن ينسحب لأن طبيعة المرحلة التي نعيشها والتي تُسحب فيها مجتمعاتنا للخلف، تفرض عليه أن لا يكون شاهد زور.

  • الجديد في روايتك هي أنها تتحدث عن «ختان البنات» من الداخل وليس حديثا عابرا، ما قصة هذه التيمة؟

عند وصول الإسلام السياسي للحكم سنة 2012 من خلال حزب النهضة، ظهرت سلسلة من الزيارات للعديد من الدعاة لتصحيح إسلام التونسيين وإعادة فتحه من جديد. لذلك جاء الداعية المصري وجدي غنيم وقد أثار حضوره لغطا كبيرا حول «ختان البنات» على اعتبار أنه أحد أبرز الداعين له. بسرعة أصبح «ختان البنات» موضوع جدل شديد في الشارع التونسي حتى أنه ظهر تيار يرفض ختان البنات وهذا طبيعي، وظهر تيار آخر يبرره وهذه صدمة بالنسبة لي، من ثمة انطلقت إشاعات من هنا وهناك حول أشخاص قاموا بذلك لبناتهم حتى أن وزارة الصحة أصدرت بيانا في تلك الأيام تقول إنها تحمّل مسؤولية قانونية لكل من يتجرأ على ذلك.. طبعا مثّل كل ذلك جرحا في كبريائي كامرأة تونسية، ورفضت – كليا – أن نتطارح مثل هذه المشاكل الزائفة التي أتى بها الإسلام السياسي ليستبدل المطالب الحقيقية للشعب وهي الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وفرضت علينا مشاكل زائفة مثل تعدد الزوجات والمساواة في الإرث وختان البنات..

بصفتي كاتبة أردت أن أثبّت تلك اللحظة التاريخية المهمة والوضعية الحرجة التي أوقعنا فيها الإسلام السياسي، فاقتنصتُ « ختان البنات « تيمة لروايتي أردتها أن تكون حركة أدبية استباقية حتى أنبّه للجريمة التي يمكن أن تقع للمرأة باسم الجهل المقدس. صحيح أن « ختان البنات « غير موجود في تونس، لكنه موجود في ذهن شريحة هامة من الإسلام السياسي الذين رأينا بعض قادتهم يعتبرون أن ختان البنات عملية تجميلية وهذا يعني أنهم لا يمانعون في إجرائها.

  • مرة هتف يسوع «إلهي لماذا تخليت عني»،وأنت بم تصرخين في زمن كوفيد ؟

ليس وباء الكورونا هو الذي يرعبني ولا الديكتاتوريات المنغرسة هنا وهناك، ولا الجهل المقدس الذي يفرخ في مجتمعاتنا مثل الطفيليات، بل الاكتئاب الذي يسميه علماء النفس الكلب الأسود هو الذي يتربص بي في كل حين، من أجل ذلك اختار الفنان العالمي النرويجي إدوارد مونش عنوان «صرخة» لواحدة من أشهر لوحاته وفسر ذلك لاحقا بقوله إنه يخاف من الاكتئاب تماما مثلما يخاف من الحياة، ولا يريد منهما أن يدمرا فنه» لذلك يمكن أن أصرخ «يا الهي لا تتخلى عني»، طبعا أن أمنح شغف بالكتابة هي بمثابة مشرط أدافع به عن نفسي في مواجهة الكلب الأسود، لكنه لا يكفي.

أحتاج معجزة تجعل من الكلب الأسود لا يصادقني ولا يتحول إلى زائر ثقيل يمكن أن يطرق بابي في كل حين.

  • هل من نميمة بيضاء حول عملك الروائي الذي تشتغلين عليه حاليا؟

انتهيت من عمل روائي آخر بعنوان «زمن الغبار» وأتذكر الآن عندما قال بودلير «قلبي عاريا» اعتبر عبد الفتاح كيليطو أن «تلك هي الكتابة» بمعنى أن الكتابة لحظة تعر وأنا أعتبرها كذلك، وأضيف أنها أيضا تصفية حساب للوعي السائد وللأحكام الجاهزة وللسيستام المنغلق لأني في هذه «الرواية المخطوط» أنبش مرة أخرى في بعض المشاكل الزائفة التي أتى بها الإسلام الساسي إلى تونس، لكن بتقنية مختلفة تماما عن روايتي «الملائكة لا تطير»، هذه المرة أجعل من الزمن والذاكرة أبطالا فعليين.

الآن أنا منشغلة بالكورونا أروضها على طريقتي، وأجعلها مادة صالحة للكتابة لذلك بصدد كتابة يوميات.ي ولأن الكاتب براغماتي بطبعه، فإني أجعل من الحجر الصحي فرصة لمشاهدة أفلام فاتتني، وروايات لم يسعفني الوقت لقراءتها.

  • إلى أين تسير تونس الآن؟

مادام الإسلام السياسي في السلطة، لن يتحسن حال البلاد ولا حال العباد. لذلك يلزمنا الكثير من الوقت حتى تنهض تونس بعيدا عن حزب «النهضة»، قد يتطلب ذلك سنوات أخرى لكن «لا بد لليل أن ينجلي».

  • وإلى أين يسير العالم بعد هذا الوباء الكوني؟

ما ينفرد به هذا الوباء أنه يأتي في زمن مهم من حيث التوازنات الدولية سياسيا واقتصاديا وعلميا ومعرفيا، لذلك أعتقد أنه سيكون نقطة تحول هامة تُمنح فيه بعض الدول الكبرى أسبقية مقابل تراجع أخرى. في مثل هذه الحالة الثقافة كعادتها هي التي ستدافع عن الإنسان، والإبداع هو الذي سينتصر للقيم الإنسانية ويظل الأدب المشروع الحقيقي لإنقاذ العالم اليوم وغدا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى