النموذج التركي والفساد في الديمقراطيات* حمزة عليان
النشرة الدولية –
لماذا يصل الأسوأ إلى القمة؟
شدَني العنوان من الوهلة الأولى وحفَزني على قراءة النص باللغة العربية، وهو من ترجمة د. مشاعل الهاجري ولولوة الكندري. الدراسة نشرتها مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية في جامعة الكويت في العدد الأخير، فأبقيت على النصف الأول من عنوان البحث باعتباره مفتاح المقال أما الكلام عن “الفساد في الديمقراطيات” فيعتبر ألف باء الثقافة السياسية.
البحث يرصد مرحلة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أثناء إجراء الانتخابات عام 2019، تبين كيفية استغلال أدوات الحكومة بأكملها في حملته، وأتت في فترة تصدرت تركيا أكبر عدد من المعتقلين الصحافيين، أما لماذا هذا الاختيار، فالحقيقة أنني وجدت في المضمون ما يمكن أن يضيف شيئاً مفيداً للقارئ وللباحث الجاد.
مدخل الدراسة يجعلك تمعن النظر في الظاهرة، نظراً لأهمية الخلاصة التي تنطلق منها، حيث تقول إن القادة الذين يسيطرون على الأنظمة المتسلطة هم أشخاص مستعدون لعمل كل ما يتطلبه الأمر للحكم مع اتباع “منافسة ريعية” نحو المناصب القيادية، مما يترتب عليه فوز أسوأ المرشحين، لأن النظم الديمقراطية ذات السلطة المركزية الأضعف تميل إلى تقديم جوائز للفائز في المسابقة السياسية.
تتوصل الدراسة عند نقطة جامعة للأنظمة الشمولية والديمقراطية، وهي أن تلك العمليات ليست سوى ألعاب ريعية، فالسياسيون القابلون للفساد يصبحون متنافسين منخفضي القيمة حتى في الديمقراطيات! والجانب غير المرئي في هذا الموضوع أن صعود الأسوأ إلى القمة فرضية ليست حكراً على الدكتاتوريات بل في الديمقراطيات أيضاً، وهذا ما تكشفه الأطروحة، من خلال فحص نتائج الأحداث في تركيا.
اتبع إردوغان سياسات لممارسة السلطة بشكل يقوض النظام الديمقراطي، فالتعبير عن أي رأي معارض كان كافياً للحصول على أرخص تذكرة لدخول السجن، فالدراسة تدرس الروابط التي يتحول بموجبها الشخص إلى دكتاتور، والعمل المتعلق بالخيار العام أو ما يعرف عند الاقتصاديين بنظرية “تكلفة الفرصة” بشأن المنافسة الديمقراطية على المناصب.
استعان المؤلفون الثلاثة “موريس كوتس وجيرمي شوارتز وغوهان كاراهان” بتشخيص علماء اجتماع آخرين، للمسلك الخفي لكل من الدكتاتوريين والديمقراطيين باعتباره شكلاً من أشكال “المقاولاتية السياسية” من أجل تمديد بقائهم في السلطة، أو توسعة نطاق سلطاتهم في المنصب أو الاثنين معاً.
تستعرض الدراسة تحول المجتمع التركي في عهد إردوغان وصعوده الصاروخي إلى رئاسة البلاد بعد أن كانت تحكم بنظام برلماني يرأسه رئيس للوزراء، ويخضع لآليات قوية من الضوابط، و”الرئيس” مجرد رمز صوري ذي مسحة من الحياد، إلى أن خطا نحو أخذ السلطات الموسعة، وتمكن من عقد صفقات الغرف الخلفية وحصل على 51% من الأصوات ليبقى في منصبه فعلياً حتى العام 2029.
تلك الأمور تحمل المرء على التفكير بأن تركيا انتخبت شخصاً ذا طموح أكبر من تلك التي تسمح به حتى أكثر الأنظمة الرئاسية قوة، ومن المفارقة هنا أنه ذاته الذي شاع عنه بصفته عمدة إسطنبول عام 1993، انتقاده الشديد لطول أمد السلطات الرئاسية! ووفقاً للمثل التركي القديم والذي يقول “من يمسك بالعسل يلعق أصابعه” يبدو أن لعق العسل تزايد منذ عام 2013، فمركز تركيا في مؤشر الشفافية الدولي، شهد تراجعاً ملحوظاً خلال أربع سنوات!
الخلاصة التي انتهت إليها الدراسة تذهب إلى أن بعض الديمقراطيات الحديثة تعوزها الأدوات اللازمة لمقاومة زعماء يسعون إلى تقليص الحريات الفردية أو القضاء عليها في معرض سعيهم لحصد المزيد من المنافع، وبالتالي قيامهم بتعديل اللعبة من خلال الجهود التدريجية لتقويض الديمقراطية باستخفاف واضح وتعسف.