تعددت المدارس…و”التطبيع” واحد* عريب الرنتاوي
النشرة الدولية –
تطبيع العلاقات بين بعض العرب وإسرائيل، مرذول، عن أي جهة صدر، وأياً كانت أشكاله ومستوياته ومبرراته…ليس هناك تطبيع “حلال” وآخر “حرام”، فهو في جوهره، “شرعنة” للاحتلال والعنصرية والاستيطان، وهو شهادة إقرار بالهزيمة وإن تدثر بلبوس “الواقعية” و”العقلانية”…وسواء أتخذ “المطبّعون العرب” من نصرة فلسطين ذريعة لتسويق هرولتهم وتهافتهم، أو تعللوا بمصالح واولويات وطنية أخرى ضاغطة، فإن الضرر حاصلٌ لا محالة، وفلسطين هي “المخذولة” والمصابة بـ”ظلم ذوي القربى” وتخلّيهم.
لكن ونحن نحرص في مفتتح هذه المقالة، على تأكيد ما هو “مبدئي” و”أخلاقي” في مسألة “التطبيع”، نجد الحاجة مُلّحة، وبالمعنيين السياسي والأخلاقي أيضاً، للتوقف عند اختلاف مقاربات الدول المطبعة…فالعرب، حتى في مسألة “التطبيع” ليسوا ملّة واحدة، بل تراهم منقسمين شيعاً ومذاهبا في مقاربة هذه الفعلة الشنعاء، ويمكن الوقوف عند مدارس تطبيعية ثلاث:
الأولى؛ مدرسة الضرورة: وتشمل دولاً مثل مصر ابتداءً، والأردن والسلطة الفلسطينية لاحقاً، وتقوم على فرضية أن الحاجة لاسترجاع الأرض والحقوق، أملت الدخول في مسار تفاوضي – سلمي، وهذا بدوره يملي قدراً من “تطبيع” العلاقات…وثمة سرديات لا نهاية لها، حول فشل العرب في اختبارات القوة (والكفاح المسلح) لاسترجاع هذه الحقوق، وما ترتب على هذا الفشل من كلف بشرية ومادية، واشتداد الحاجة لتجريب خيارات أخرى، جرى تلخيصها بشعار: “السلام خيار استراتيجي وحيد للأمة”.
الثانية؛ مدرسة الحاجة؛ دول منخرطة في صراعات مع جوارها العربي أو الإقليمي، أو تعاني العزلة والعقوبات والانهيار الاقتصادي والمالي، هنا يمكن الإشارة إلى تجربتي المغرب والسودان في التطبيع مع إسرائيل، وثمة دول أخرى ستلتحق بهذه المدرسة…”الوحدة الترابية” للمغرب أولوية تتخطى فلسطين وتتقدم عليها، وخروج السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، هي أولوية للحكم الانتقالي، تتخطى فلسطين وتتقدم عليها…في كلتا التجربتين جرى تسويق التطبيع وتسويغه، من على قاعدة: أن مواقفنا لن تتغير من القضية الفلسطينية، ولكن على الفلسطينيين أن يتفهوا ما نحن فيه وعليه، من احتياجات وتحديات.
المدرسة الثالثة؛ مدرسة أوهام القوة وأحلام الدور الإقليمي، ويعتقد فرسانها، أن التطبيع مع إسرائيل هو طوق نجاتهم في مغامراتهم الإقليمية، والطريق الأقصر لتوفير شبكة أمان لهم، في مواجهة جوار إقليمي توسعي وطامع: إيران وتركيا، فضلاً عن كونه مدخلاً لتبييض سجلاتهم، إن في الداخل لجهة التعامل مع معارضيها، أو في الخارج لجهة المغامرات التي صاحبت انتفاخ الإحساس بالقوة والعظمة، وغيرها من مزاعم وادعاءات، تعكس البون الشاسع بين “أحلام اليقظة” و”حقائق التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا الصلبة”.
لا يمكننا بناء صور صيني بين هذه المدراس الثلاث، فدوافع التطبيع وحوافزه، تبدو متداخلة بعض الشيء، لكن التطبيع عند المدرستين الأولى والثانية، لم يقترن بحملات شيطنة للفلسطينيين وممثلهم الشرعي وقيادتهم، ولم تمارس حكومات هذه الدول، ضغوطاً على شعوبها للانخراط في “علاقة شعب لشعب” مع الإسرائيليين، وظلت هذه الأطراف، تكرر مواقفها التقليدية من القضية الفلسطينية، لفظياً على الأقل.
ردود الأفعال الفلسطينية والشعبية العربية على مدرستي التطبيع الأولى والثانية، جاءت متواضعة إلى حد كبير، بعضها كان أقرب للفهم والتفهم…أما ردود الفعل على المدرسة الثالثة، فقد كانت صاخبة وضاجّة بالكثير من الاتهامات…ولذلك في ظني أسباب عدة، منها: (1) القناعة العامة بأن هذه الدول ليست مرغمة ولا مكرهة على تقديم كل هذه التنازلات المجانية…(2) تطبيع هذه الدول اقترن بحملات “شيطنة” للفلسطينيين، وصلت حد تبني الرؤية والرواية الإسرائيليتين للصراع وسبل حله.
يضاف إلى السببين السابقين، سبب ثالث، وهو أن دول التطبيع من المدرستين الأولى والثانية، لم تظهر هذا القدر من “الاندلاق” و”الاحتفالية” بالتطبيع…لقد تصرفت غالباً، على قاعدة “إذا بليتم فاستتروا”، لم نر الشمعدان اليهودي يضاء على جدران البنايات الكبرى في عواصمها، ولم نر حفلات الرقص والغناء والإنشاد بـ”العبرية الفصحى”، ولم نر كل هذا القدر من “الخفة” و”الرعونة” و”الابتذال”، الرسمي والشعبي الذي صدر عن المدرسة الثالثة، التي لم تتورع عن الاستثمار في المستوطنات، واستيراد منتجاتها.
باستثناء دولة واحدة: الإمارات، كان الرأي العام حاضراً بدرجات متفاوتة، في مطابخ صنع القرار للدول المطبعة…إذ حتى البحرين، التي أدرجناها في عداد المدرسة الثالثة، انتابها (ولا يزال) قدر من الحذر في مقاربتها لملف التطبيع، سيما في ضوء الرفض والحيوية اللتان تكشّف عنهما شعب البحرين المتمرس بالالتزام بقضايا أمته، التواق دوماً لحريته واستقلاله.
ثمة سؤال، يتعين على الخبراء والباحثين الانشغال به، ويتعلق بسر غياب “الرأي العام الإماراتي” عن معادلة التطبيع وجدله المحتدم في المنطقة…سؤال تتناسل منه عدة أسئلة وتساؤلات حول بنية هذا المجتمع وتكوينه وتمثلاته، ومسألة الهوية والاندماج، والأثر المترتب على واقع أن سكان البلاد الأصليين هم أقلية في وطنهم (حوالي 11 بالمئة)، وما يستتبعه ذلك من أسئلة حول تجليات مفهوم الدولة بالمعنى المتداول في العلوم السياسية: شعب وإقليم وسيادة، وشكل الدولة الذي يمكن أن ينجم عن اختلال العلاقة بين أركانها.
نختم بما بدأنا به: ليس المقصود بهذه المقالة، تفضيل تطبيع على آخر، ولا الترويج لنظرية “تطبيع حلال” وآخر “حرام”، بل إلقاء حزمة من الأضواء الكاشفة لدوافع ومحفزات دول وحكومات، أدارت ظهرها، لما ظل يعرف لأكثر من سبعين عاماً، بقضية العرب المركزية الأولى.