صورة تقريرية من عمق “الحرب العالمية الثالثة”* مالك العثامنة
النشرة الدولية –
مثل أي صحفي يدخل “منطقة حرب”، أجدني وقد خرجت من “منطقة حرب” كانت خساراتي فيها فادحة وقد مات فيها والدي – رحمه الله – قبل ثلاث أيام من كتابتي هذه السطور، وكدت أنا أن أخسر فيها حياتي قبل ذلك بشهر، فأجدني ملزما باسم المهنة أن أضع قدر الإمكان تلك التجربة أمام الناس، ولا أقصد الجانب الوجداني العاطفي منها، فتلك حكايات لا نملك ترف الوقت لها ونحن في آخر الحرب العالمية الثالثة، بل الجانب التنويري لما كنا نجهله، أو نغفل عنه بقصد أو بدون قصد، فيزيد من نسبة الضحايا بين البشر.
إنني أكتب المقال في وقت يفترض أن يكون “حدادا” شخصيا على فقد موجع، لكن عزائي أنى أقدم ما تعلمته “بثمن باهظ” عن روح والدي رحمه الله.
مطلع نوفمبر الفائت، تم تأكيد إصابتي بفيروس “كوفيد ١٩” بعد يومين من التعب المشابه لأعراض الانفلونزا، وحين فقدت حاستي الشم والتذوق، تقدمت للفحص عند الطبيب، لتكون النتيجة “إيجابية” على كل سلبيتها، وكان هذا يعني حسب التعليمات والبروتوكول المتبع في بلجيكا أن أضع نفسي في حجر منزلي صارم، منعزلا عن باقي الأسرة بإجراءات عزل شديدة تحميهم من العدوى “وهو فيروس سهل الانتقال جدا”.
في الأيام الأربعة التي قضيتها في غرفة معزولة تماما بلا أي تماس مباشر مع أحد، عانيت من أزمتين، كانت الأولى ذلك السعال وضيق النفس المرافق لألم مفاصل مزعج، أما الأزمة الثانية التي لم تستفحل لكنها بقيت عالقة في النفس حتى اليوم، فهو ذلك الرعب النفسي والخوف في غرفة معزولة، وهو ما كنت أخجل البوح به حتى فهمت لاحقا ومتأخرا من حالة والدي تلك الظاهرة التي سأشرحها لاحقا في مقالي.
في اليوم الرابع، كانت زوجتي على تواصل مع معارف من أصدقاء في مدينة بروكسل، كانت السيدة الطيبة والرائعة والدتهم قد ماتت – رحمها الله – بسبب الكورونا في المستشفى، وكانوا – على رغم حزنهم وفجيعتهم- يطمئنون على صحتي من خلال زوجتي، فتعلمت زوجتي من تجربتهم القاسية وقد شددوا عليها أن تنتبه لقياس الأكسجين بالدم، وهو الذي أدى انخفاض منسوبه إلى تداعيات متلاحقة وسريعة في حالة المرحومة والدتهم.
لم نكن نعرف لا أنا ولا زوجتي شيئا عن “الأكسجين في الدم” ومن خلال الحوار والتقصي، واجهت زوجتي جهلنا بالتوعية والمعرفة، وأصرت أمام رفضي الجاهل أن تبحث عن جهاز قياس الأكسجين بالدم مما اضطرها إلى المرور – وقتها- على أكثر من عشر صيدليات إلى أن وجدته، وعادت به مساء اليوم الخامس، لنكتشف أن منسوب تشبع الدم بالأكسجين منخفض عندي إلى حد ٨٦، والحد الأدنى المقبول “بحذر” هو ٩٢، علما أن الحدود الطبيعية المقبولة لمستوى تشبع الأكسجين في الدم هو بين (٩٥- ١٠٠).
اتصلت زوجتي بطبيبة الأسرة – حسب التعليمات في بلجيكا- والتي تفاجأت بقياس الأكسجين فوجهت مباشرة عبر الهاتف إلى تحويلي للعلاج في المستشفى واتصلت الطبيبة بالمشفى الذي استقبلني بعد ساعة في غرفة خاصة للعناية المركزة، قضيت فيها ليلتي الأولى ثم إلى غرفة خاصة معزولة وقد تعرضت إلى التهاب في الرئة.
كان البروتوكول العلاجي المتبع لي يتضمن: أنبوب الأكسجين لرفع منسوب الأكسجين في الدم، العلاج بالكورتوزون والمضاد الحيوي لالتهاب الرئة وطبعا التغذية الجيدة ومميع الدم لتجنب الجلطة بسبب قلة الحركة.
بعد ١٢ يوما في المستشفى تعافيت بقوة من الله، وتعلمت مع زوجتي درسا جديدا في الصحة المنزلية، بأن يكون في صيدلية البيت وكأهمية ميزان الحرارة، جهاز قياس الأكسجين في الدم ( OXIMETER).
كنت في كل مراحل الاستشفاء والتعب المرضي على تواصل مع والدي رحمه الله، والذي كان قلقا على صحتي، وكنت كثيرا ما أنبهه إلى ضرورة توخي الحذر الشديد من الخروج وعدم الاستهتار بالعدوى الفيروسية الخطيرة.
قدر الله أن يصاب والدي ووالدتي بالفيروس، وكنت قد خرجت من المستشفى وأقضي الوقت في نقاهة منزلية، وبعد اشتداد الأعراض على والدي تحديدا خصوصا السعال والإرهاق وعدم النوم، طلبت من شقيقي المشرف على صحة الوالدين المصابين أن يركز على نسبة الأكسجين بالدم، وحين استطاع أن يحصل على جهاز القياس، تبين أن النسبة منخفضة جدا عند والدي، مما قضى بأن يتوجه للمستشفى فورا، والذي قرر أن يوضع بالعناية المركزة.
ما حدث مع المرحوم أبي، كان إضاءة جديدة تعلمتها وأسرتي ودفعنا تكلفتها ثمنا باهظا وموجعا، وتتعلق بوحدة العناية المشددة أو ما يعرف دارجا بال ( ICU )، حيث قضى والدي – رحمه الله- كل أيامه الثمانية عشرة الأخيرة من عمره وقد خضع لبروتوكول علاجي تعافى فيه وببطء من التهابات الرئة، وانتهت دورة حياة فيروس الكورونا في جسمه، لكن نسبة الأكسجين المنخفضة جدا في دمه أبقته رهين العناية المركزة وأسيرا لأجهزة الأكسجين، وهو ما جعلنا نستغرب بداية الأمر رفضه لتلقي العلاج وإصراره “العصبي جدا” على الخروج لا من العناية المركزة وحسب، بل من المستشفى، وهو ما كان مستحيلا حسب الرأي الطبي، نظرا لحالته المتدهورة والتي تتطلب تلك العناية الفائقة بالمعدات الطبية التي لا يمكن توفيرها في المنزل.
تلك الحالة العصبية التي لم نستطع لا نحن كأسرته، ولا طاقم التمريض في المستشفى أن نجد لها تفسيرا إلا بوقت متأخر، وهي تتعلق بحالة تسمى ” ذهان وحدة العناية المركزة” – ( ICU psychosis).
وهو اضطراب في الوعي والإدراك يصيب أي من مرضى وحدة العناية المركزة فيؤدي إلى ظهور مجموعة من الأعراض النفسية الخطيرة و يعتبر شكل من أشكال الفشل الدماغي.
وقد يطلق عليه أيضاً متلازمة وحدة العناية المركزة، والفئة العمرية الأكثر عرضة للإصابة هم كبار السن.
من الضروري أن يتم التنبيه “خصوصا من يقرأ من كبار السن أو أسرهم” على تلك الحالة، لتلافيها وتجنبها والتعامل معها بما يجب من معرفة وعلم ووعي.
وهو ما يقودنا إلى أهمية التركيز على التخصص المعرفي في تأهيل طواقم وحدة العناية المركزة في كل مستشفيات العالم العربي، فالطاقم الذي يعمل في تلك الوحدة الخاصة جدا مثله مثل هؤلاء الذين يتم انتخابهم للوحدات الأمنية في العمليات الخاصة، لهم معرفة أكثر تعمقا ودراية في خط المواجهة الحساس وغير الطبيعي.
وقد أشار إلى ذلك أحد أهم أطباء الأردن وهو وزير صحة أسبق ورئيس جامعة ويشغل حاليا كبروفسور رئاسة المركز الأردني لعلاج السكري، الدكتور كامل العجلوني في مقابلة متلفزة على قناة المملكة تحدث فيها بصراحة عن تلك النقطة الحيوية وقال فيها أنه حتى هو بكل معرفته العلمية المتخصصة التي امتدت لعقود طويلة وصفته كبروفسور لا يستطيع شخصيا التعامل المباشر مع مرضى وحدة العناية المركزة ولا أن يضع لأي مريض جهاز تنفس بالشكل الصحيح.
تلك ملاحظة مرت مرورا عابرا وهذا طبيعي في عالمنا العربي الغارق بالجهل والدجل الحكومي والشعبي، والذي يجعل “الإنجازات” الحكومية ليست أكثر من تسجيل نقاط في مرمى دكاكين الصحافة التي لا تعرف المهنية ولا التوعية الإعلامية السليمة.
ونحن الآن في آخر أيام تلك الحرب العالمية الثالثة، وقد استطاع العلم (لا الدجل والشعوذة) أن يتوصل إلى السلاح النووي الذي سينهي هذا الوباء وينقذ ما تبقى من البشر، فإن الحذر لا يزال واجبا وضروريا في اتخاذ إجراءات الوقاية من العدوى، فالفيروس لا يزال منتشرا.
وكذلك، فإن التجارب التي خاضها من حاربوا المرض أو من فقدوا فيه محاربين على جبهات القتال المريرة والقاسية، هي تجارب لها إضاءاتها ما دامت خالية من الشعوذة والدجل ومتوافقة مع المعرفة العلمية الصحيحة.
ومن تجربتي الشخصية المزدوجة، عبر مرضي ثم مرض أبي رحمه الله، أجد لزاما علي التأكيد على فحص أكسجين الدم منزليا وبانتظام، فانخفاض منسوبه قد لا يظهر على شكل أعراض واضحة، لكن حدوثه قد يؤدي إلى فجيعة مؤكدة، وهي النصيحة التي أشدد على أن أعطيها لكل من أعرفهم شخصيا.
وفي زمن أصبحت فيه غرف العناية المركزة ممتلئة وتتزايد، لا بد من التوعية أكثر وعبر متخصصين عن ظاهرة “ذهان وحدة العناية المركزة” والتي أشير لها هنا لعل كبيرا بالسن يقرأني فيخزن المعلومة في عقله الباطن ويسترجعها لو مرض لا سمح الله، فقد تنقذه إن تذكرها وتلافاها، أو يعرف عنها قريب لمريض يعاني منها فيفهم ما لم يجد له تفسيرا من حالة عصبية يعاني منه المريض في العناية المركزة.
وقد يلهم الله حكوماتنا العربية ووزراء الصحة فيها فيتم تأهيل طواقم متخصصة في العناية المركزة مثلما هي تلك الوحدات المؤهلة في أوروبا ودول الغرب، والتأهيل يكون بالعلم والمعرفة والتدريب المتخصص والمستمر لا بالدجل والشعوذة والتمائم الغريبة.
وحمى الله البشرية جميعها بلا استثناء من كل وباء ومكروه.