العقوبات الأميركية والأوروبية: إلى أين يهرب أردوغان؟* رفيق خوري
النشرة الدولية –
يندفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سياسة “شراء المشاكل” بعد سياسة “صفر مشاكل” التي دعا إليها وزير خارجيته السابق أحمد داود أوغلو. وهو يتصور أن الحظ يخدمه. ينظر إلى الشرق الأوسط بعيون ألب إرسلان ومحمد الفاتح فيراه من أملاك السلاجقة ثم العثمانيين. ويتطلع بعيون المؤرخ البولوني أوسكار هيلاتشكي ، فيرى “أوروبا جغرافياً لا شيء سوى شبه جزيرة في آسيا”. يعرف بالتجربة ما يقوله روبرت كاغان من المحافظين الجدد من أن “أميركا صارت تاريخية تريد حل المشاكل، وأوروبا خرجت من التاريخ وتريد التعايش مع المشاكل”. لكنه يتمرد على أميركا بشراء صواريخ “أس 400” من روسيا، معتمداً على درع حماية مؤمّن له من الرئيس دونالد ترمب المعجب به وبأمثاله من الحكام السلطويين. ويتنمر على أوروبا بالإعتداء على المياه الإقليمية لقبرص واليونان والتحدي في ليبيا، مطمئناً إلى النجاة من العقوبات، ويسرح ويمرح في الشرق الأوسط كما تفعل إسرائيل وإيران في غياب القوة العربية.
لكن دولاب الحظ دار. الكونغرس يطلب فرض عقوبات على تركيا لا يستطيع الهرب منها ترمب في أيامه الأخيرة. وإدارة الرئيس المنتخب جو بايدن التي تعيد الاعتبار إلى الرباط الأطلسي، لديها حسابات مختلفة حيال التمرد التركي. والاتحاد الأوروبي خطا خطوة على طريق العقوبات بدفع من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون القائل إن “الأمر الواقع صار العقيدة الجديدة لعدد من الدول. روسيا وتركيا تتصرفان كما تريدان خارج حدودهما من دون أي محاسبة، ويجب أن نجد آليات فاعلة لمحاصرتهما”. كانت العقوبات في القمة الأخيرة ضعيفة بالطبع وعلى مراحل مع إعطاء تركيا “فرصة للتصحيح” حتى مارس (آذار) المقبل. غير أنها نقلة رمزية وعملية على رقعة الشطرنج بموافقة الدول التي لها مصالح كبيرة مع أنقرة، بعدما اعترفت المستشارة أنغيلا ميركل بأن مسعاها مع أردوغان “فشل”. فما يراهن عليه الرئيس التركي في التنمر وإرسال القوات إلى سوريا والعراق وليبيا وأذربيجان هو خمسة أمور: الأول هو مواقف ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والمجر ومالطا. الأمر الثاني هو أهمية الموقع التركي والدور في حلف الأطلسي وصعوبة فرض عقوبات قاسية على عضو في الحلف. الثالث، هو القدرة على ابتزاز أوروبا وتهديدها بدفع مئات الآلاف من المهجرين السوريين إليها بحراً وبراً. والرابع هو تحريك الجاليات التركية في أوروبا، خصوصاً في ألمانيا، حيث يعيش الملايين منهم منذ قدومهم إليها بعد الحرب العالمية الثانية للعمل في الصناعة بصفة “عمال ضيوف” فصاروا مواطنين. والخامس هو الخوف ضمن الإطار الاستراتيجي والجيوسياسي من خسارة تركيا وذهابها إلى التحالف الكامل مع روسيا.
ذلك أن “أوروبا قوة في العالم، لكنها ليست قوة عالمية” كما يقول سيمون سيرفاتي من “مركز للدراسات الاستراتيجية” في وارسو. ويتحرك الاتحاد الأوروبي في القرارات على طريقة القوافل: السير على خطى الأضعف. فالقرار يؤخذ بالإجماع أو لا قرار. يكفي أن يعترض عضو واحد من بين 27 عضواً بعد خروج بريطانيا من الاتحاد لكي يتوقف كل شيء. حتى بقية ما لدى الاتحاد من أنياب، فإن استعمالها يحتاج إلى مناقشات طويلة وحسابات مصالح و 27 قراراً .
ومع ذلك، فإن أوروبا قادرة على الردع ومعاقبة مَن يتحداها حين تصل الأمور إلى حساب دقيق: ثمن اللاقرار أكبر من ثمن القرار. وكلفة الرضوح للابتزاز أشد ضرراً على الدور الأوروبي والدول والمجتمعات من أي آثار سلبية لمواجهة الابتزاز. وقمة بروكسل الأخيرة محطة على هذا الطريق. فما في الميزان، فوق ذلك، هو الخطر على أميركا وأوروبا والذي أشار إليه وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر بالقول إن “تحوّل تركيا من قوة اعتدال ضمن دولة علمانية إلى صيغة ايديولوجية إسلامية يعقّد حسابات الغرب”. وما يندفع فيه أردوغان بالمال والسلاح والعسكر والمرتزقة لتحقيق حلمه السلطاني عبر “أجندة” الإخوان المسلمين، وصل إلى أعلى المخاطر على العالم العربي.
وها هو يشتري أزمة دبلوماسية مع إيران بسبب ترداده لقصائد قديمة تعكس الحنين إلى التاريخ والرغبة في تغيير الجغرافيا. حين كان أردوغان الشاب رئيساً لبلدية إسطنبول فقدَ منصبه وحُكم عليه بالسجن بعدما ردد قصيدة لشاعر تركي “الثكنات قلاعنا، المآذن حرابنا، والمؤمنون جنودنا”. وحين احتفل في باكو بانتصار أذربيجان الذي أسهم فيه على أرمينيا في قره باغ، ردد قصيدة للشاعر الأذربيجاني محمد إبراهيموف عن الحزن على الفصل بين الأراضي على ضفتي نهر آراس، رأت فيها طهران تحريضاً للأذريين الذين يشكلون 25 في المئة من سكان إيران على الانفصال عنها والالتحاق مع الأرض في أذربيجان.
من الصعب على أردوغان أن يستمر في اللعب بين القوى الإقليمية والدولية وعليها من دون ثمن باهظ. والدفعة المهمة من الثمن تبدو في الداخل، حيث تنحسر شعبيته بمقدار ما تتوسع “فتوحاته” ومشاكله الخارجية.