حان دور أوروبا لرفض ترامب* بروجيكت سنديكيت
النشرة الدولية –
على الرغم من إصرار دونالد ترامب ومحاولاته الفاشلة لقلب نتائج الانتخابات، فقد تقرر موعد نهاية رئاسته في العشرين من يناير الجاري، وسيُصبح قريباً شيئاً من الماضي، لكن لسوء الحظ، سيستمر إرثه السياسي بعد رحيله، ومع تصويت ما يقرب من 75 مليون أميركي لصالحه (و82 مليونا لصالح جو بايدن)، نجح ترامب في حشد مستوى غير عادي وغير مُتوقع من الدعم بين قاعدة ستستمر في توجيه الحزب الجمهوري نحو سياساته الانعزالية القومية.
سيؤثر نهج ترامب على السياسة الأميركية لفترة طويلة قادمة، وستظهر نسخة منه مرة أخرى في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، وهذا أمر واضح بالفعل، وللتخلص من سياسات ترامب، كان الديمقراطيون بحاجة إلى تحقيق «الموجة الزرقاء» من الانتصارات الانتخابية طوال عملية الاقتراع، لكنهم فشلوا في ذلك.
بالنظر إلى سنه، من غير المرجح أن يُرشح ترامب نفسه مُجددا في عام 2024، ومع ذلك يتنافس الورثة الشعبويون الأصغر سنا بالفعل للترشح للانتخابات الرئاسية المُقبلة، ومن المنظور الأوروبي وعبر الأطلسي- ولكل منهما مصلحة وجودية في بقاء أميركا ملتزمة بالتعاون متعدد الأطراف- يمثل انتخاب بايدن انتصارا في معركة حاسمة، ولكن ليس في الحرب.
يتعين علينا في أوروبا ألا ننسى أنه بعد أربع سنوات من عدم كفاءة ترامب وادعاءاته الكاذبة- مع وفاة أكثر من 300 ألف أميركي جراء الإصابة بفيروس كوفيد19- أعرب ما يقرب من نصف الناخبين الأميركيين عن رغبتهم في بقاء ترامب في السلطة لأربع سنوات أخرى، وقد يكون لهذه الحقيقة المُثيرة للقلق آثارٌ بعيدة المدى على مستقبل عملية صنع السياسات الأوروبية.
لا يمكن أن يرتكب الأوروبيون خطأ أكبر من التراجع والتنازل ببساطة عن المسؤولية عن العلاقة عبر الأطلسي لصالح إدارة بايدن، فقد يكون بايدن ومستشاروه أكثر كفاءة من ترامب بشكل غير محدود، لكن مستقبل الشراكة عبر الأطلسية سيعتمد إلى حد كبير على ما ستفعله أوروبا- وخصوصاً ألمانيا- في السنوات المقبلة.
وفي حين أجبرت سنوات ترامب القادة الأوروبيين على اتخاذ موقف دفاعي، فإن انتخاب بايدن يتطلب عكس ذلك تماما: دفعة استباقية نحو التجديد عبر الأطلسي، ومن أجل استعادة هذه العلاقة يتعين على أوروبا أن تتصرف بشكل ناضج باعتبارها شريكا مُتساويا مع الولايات المتحدة، وتتجاوز خضوع حقبة الحرب الباردة الذي لا يزال قائما بعد 30 عاما.
على سبيل المثال، لا يمكن ببساطة تفسير حصة الدول الأوروبية الضئيلة بشكل غير متناسب من عبء الإنفاق العسكري داخل حلف شمال الأطلسي لمعظم الأميركيين (وليس مؤيدي ترامب فقط). يجب حل نقطة الخلاف هذه في أسرع وقت مُمكن، لأسباب ليس أقلها أنه سيكون من مصلحة أوروبا الخاصة تعزيز دفاعها.
ومع ذلك، يتعين على الأوروبيين أن يوضحوا لإدارة بايدن منذ البداية ما تستطيع أوروبا فعله وما تعجز عن القيام به، إذ تُعد أميركا قوة عالمية ذات مصالح عالمية وقدرات عسكرية فريدة، وعلى النقيض من ذلك تشمل أوروبا العديد من البلدان الصغيرة والمُتوسطة الحجم، ولكل منها قدرة محدودة على إبراز القوة والنفوذ (ربما باستثناء القوتين النوويتين فرنسا والمملكة المتحدة، وستحتاج المملكة المتحدة أولا إلى تحديد أهدافها والوقوف على قدميها خارج الاتحاد الأوروبي).
وقد أظهرت التجربة السابقة في التعامل مع المهمات العسكرية خارج أوروبا أن منظور قوة عالمية يختلف اختلافا جوهريا عن منظور قوة صغيرة أو متوسطة الحجم. يدرك الناخبون الأوروبيون هذا الأمر بالفعل، وسيكون له تأثير قوي على قبولهم لمثل هذه المهمات في المستقبل.
وفي سياق العلاقة عبر الأطلسي، يتمثل دور أوروبا في الدفاع عن أراضي حلف شمال الأطلسي ومُحيطه غير المستقر، ففي أوروبا الشرقية، يتعلق هذا في المقام الأول بدول البلطيق (جميع الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي)، والحرب في شرق أوكرانيا، وغيرها من «الصراعات المجمدة» في البلدان الأوروبية المُجاورة. سيتطلب حل هذه المشاكل- أو على الأقل تحقيق نوع من الاستقرار- استجابة دبلوماسية أوروبية أقوى بكثير مما شهدناه حتى الآن.
علاوة على ذلك، من شأن الهجرات الجماعية والحرب ضد الإرهاب أن تُجبر أوروبا على تعميق مشاركتها على الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط وغرب إفريقيا، فقد أصبح شرق البحر الأبيض المتوسط بشكل متزايد نقطة ساخنة جديدة، وذلك راجع للتوترات بين الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (قبرص واليونان وتركيا) والصراعات القائمة في غرب البلقان، وعلى الأوروبيين التركيز بشكل أساسي على هذه التحديات، فضلا عن تطوير القدرات اللازمة لإدارتها؛ هذا بحد ذاته من شأنه تعزيز الأمن الأوروبي، وبالتالي مساهمة أوروبا في منظمة الناتو.
فيما يتعلق بالسياسة العالمية، يتعين على أوروبا ترك هذا المجال للقوى العظمى العالمية، وهو لقب لا يمكن أن تُطلقه على نفسها. هذا صحيح بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالصين، إذ يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى إقامة تفاهم متبادل وثيق مع الولايات المتحدة بشأن هذه المسألة، لاسيما فيما يتعلق بالقيم المشتركة، وعلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي السعي وراء التنسيق السياسي بشكل متساو، ولكن مرة أخرى، يجب توضيح الأمور بشأن ما سيقبله الناخبون الأوروبيون، وبالتالي ما يمكن للحكومات الأوروبية القيام به. على سبيل المثال، لا ينبغي تحويل منظمة حلف شمال الأطلسي إلى منظمة أمنية لشرق آسيا، لأن ذلك سيؤدي ببساطة إلى إرهاقها.
في مجال السياسة التجارية، ستظهر مجموعة جديدة من المصالح الاستراتيجية المشتركة، سواء في مواجهة الصين أو في منطقة عبر الأطلسي، وسيظل الحد من الاختلالات التجارية أو القضاء عليها أولوية قصوى.
ومن ناحية أخرى، يُواجه العالم تحديات هائلة في مجال السياسة الرقمية، وتُصر أوروبا، والتي تُعد سوقا مهمة لشركات التكنولوجيا العملاقة في الولايات المتحدة، على سيادتها الرقمية وتعمل على إدخال لوائح شاملة لحماية البيانات والخصوصية الأوروبية والسيطرة على أكبر المنصات الرقمية، ونتيجة لذلك تُهدد المصالح المتباينة داخل المجال عبر الأطلسي بالتصادم، فإذا تمكنت أوروبا وأميركا من الاتفاق على قواعد مشتركة، فيمكنهما تحديد المعيار العالمي تلقائيا بشكل أو بآخر، ولكن مع محاولات الصين قيادة معايير الحوكمة الرقمية، فقد بدأ الوقت ينفد.
حتى مع وجود بايدن في البيت الأبيض، لن يكون هناك عودة إلى التبعيات القديمة المُريحة التي حددت العلاقات عبر الأطلسي منذ فترة طويلة، فبعد أربع سنوات من حكم ترامب، يعرف الأوروبيون ما هو على المحك، وبالمثل، سيكون الاستمرار في إخفاء أي أوهام بشأن الصين أمرا ساذجا وخطيرا، فلا يوجد بديل أفضل لشراكة متجددة عبر الأطلسي، لقد نجحت أميركا برفضها ترامب وانتخاب بايدن، وكما يقول الأميركيون: الكرة الآن في ملعب أوروبا.
* وزير خارجية ألمانيا، ونائب المستشار بين عامي 1998 و2005، كان زعيما لحزب الخضر الألماني لما يقرب من 20 عاما.