الحُبُّ الأنيق – الجزء الثاني ومِنْ حكاوى الرحيل – الحكاية الخامسة* د. سمير محمد ايوب
النشرة الدولية –
سَألتُها مُتَشَكِّكاً: أَكُنتِ حقّا تُحِبينَه؟ أخشى أنّك كُنتِ معه كالمذياع، يُرسِلُ ولا يَستقبل، ودونَ إدراكٍ بأنّ الحبَّ في كثيرٍ من الأحايين، يأتي بَطيئاً على ظهرِ سلحفاة، ويَرْحلُ في أغلبِ الأحيان، بِسرعةٍ محمولاً على ظهرِ أرنَبٍ بَرِّي مذعور.
قالَت وهي تزيح خصلةً منْ شعرِها تكاد تغطي عينَها اليمنى: بل كنتُ كالحاسوبِ المُعاصر، أدْخِلُ وَآخُذْ، و كي لا تَسْقُط َكُراتُ الغبطةِ أرضاً بَيننا، بَقيتُ معه كأني في لُعبة كُرةِ الطاولة، في حركةٍ دؤوبةٍ في الأتجاهين، فإنْ لمْ يَكُنْ ما كان بِيَ حُبَّاً، كيفَ يكونُ الحُبُّ إذَن؟!
قلت وأصابعي متشابكة: لَعَلَّكِ قَسَوْتِ أو ظَلَمْتِ أو تَوَهَّمْتِ! أوْ أنَّ لِقَلبِه رِوايةٌ أخرى!
قالت وهي تشغل لفافتها بتوتّرٍ بيِّنٍ: كُنتُ أحبُّهُ يا سيدي، وَمَنْ كان حَقاً يُحِبْ لا يَقْسُ، إلا في زَخاتِ العناق. ضَحِكَتْ غمازتُها وهي تُكْمِلْ: وقتَها يكون كُلُّ ما بيَ، قابِلٌ لِعناقِ سَّخِيْ.
قلت بشيء من الحيرة المتخابثة: لَعلَّكِ كنتِ مُغالِيَةً أو مُتَطَلِّبَةً!
قالت وهي تحرّك رأسها يمنة ويسرة: لا، لستُ هذه ولا تِلك. لِلوصولِ إلى جِنانِ الحب وحواسِّهِ المُتَوالِدَة، كنت قد عَوَّدْتُ نفسيَ على أنْ لا أكترثَ كثيرا، إلى قيمةِ ما يَنتعِلُ من أحذية، أو تلك التي يُهديها إلَيْ. وحَرِصتُ على أن أُتْقِنَ مهاراتَ التَّعرُّفِ على تضاريسِ الحُبِّ الطازج و المُسْتّدام . فَكَرِهْتُ معه أُمِيَّةَ القلوبِ الخَرساء أو العمياءَ أو الصمّاء. ولم أعد أحتَمِلُ إعتقالَ العواطفِ أو تَعقيمِها في المحاجِرِ الصحية.
لاحَظَتْ شَبَحَ إبتسامةٍ مُتخابِثَةٍ تزحفُ إلى شَفَتَيْ، فأسرَعَتْ تُكْمِلْ : هو رجلٌ من غُبارٍ ومِنْ دُخان. في كل مواسِمِ القطاف وبعيدا عنها، كان قلبُه لا يُحسِنُ ألدَنْدَنَةَ يا شيخي. عُيونُه عمياءَ لا تُحسِنُ التبصُّرَ في لُغةِ الجَسد. وأصابِعُه صَمّاءُ لا تُتْقِنُ فَنَّ الأنصات والصبر، لأزاهيرِ الروحٍ أو العقلِ أو النَّفْس. كان يَسْجِنُ مَشاعِرَهُ خلفَ قُضبانٍ غليظةٍ ، لزنازين ومعتقلاتِ وَقارٍ مُفْتَعَلٍ أحول. في الوقت الذي كانت فيه مشاعري تحترَّرُ من كلِّ أقفالِها، وتأبى الصمت، وترفض الأختزال، أو البَيْنَ بَيْنَ، أو الكَيْفَما كان.
قلت مشفقا عليهما: أمَا مِنْ فُرْصَةِ للمُراجَعةِ والتدقيق يا إمرأة ؟!
سارَعَت لِلْقَول موجوعة: سَرَقَ وبَعثرَ حُسْنَ ظنّيَ بِه. وما زالَ لي في ذِمَّتةِ بقية حلم. أنتَ تعلمُ مثليَ، أنَّ كُلَّ الأماكِن تَتسع إذا ما غادَرَها أحدٌ، إلاَّ القلبُ، فانّه يا صديقي يَضيقْ. وأُحِسُّ ألآن، بأنَّ قلبيَ أضيقُ مِنْ خرمِ إبرةٍ . ولَوْ بقيَ جَنابُه في أُطُري الجغرافية ، سَيتَسربُ إلى كُلِّ مفرداتي عبر هذا الخُرمِ، خوفٌ كاللعنةِ ، ومَذاهِبُ شتّى منَ القلقِ المُتَدَحرِج.
رَفَعْتُ بِبطئٍ مُتَعمَّدٍ عَيْنَيْ، عن فِنجانِ قهوتي. وسرعانَ ما أدركتُ بِشيءٍ من العَجَب، أنَّها تُدَنْدِنُ وَجَعَها، وهي تَدُقُّ يَسارَ صَدْرِها، وتُرْسِلُ شَواظاً من عينيها باتجاه البعيد: أوْلى بهذا القلب أنْ يَخْفِقَ. يا سيِّدي، ما أضْيَعَ اليومَ الذي مَرَّ بِي، من غيرِ أن أهوى وأن أعشق.
فَجأةً تَوَقَفَتْ عن الدندنة، وكأنّها تذكَّرَتْ شَيئاً جاءت مِنْ أجلِه، وبشيءٍ من الصَّرامةِ الأنيقة، طَرَّزَتْ صفحةَ وجهِها بِمَنظومَةٍ منَ الألوانِ، وألْقَتْ في عَيْنَيَّ بِرجاء: قُلْ لي بِرَبِّكَ يا شيخي، كيفَ ألِجُ ضِرامَ الحُبْ، لأُحْرَقَ في سَلامِ نِيرانِهِ وبَرْدِها .
ضَحِكْتُ وقَهْقَهْتُ حتى إسْتَلقيتُ على قَفايَ، وأدْمَعَتْ عيناي. وقلتُ لاهِثاً لأحاصرَ جُموحَها العشوائي: وتقولين أيُّها العنودُ أنّكَ غيرَ مُتَطَلِّبَةٌ ؟ وَيْليَ مِن مَكْرِ النساء وكيدِ حواء. إنّكِ تَبحثينَ عن قلبٍ ماسيٍّ ،عاشقٍ أنيقٍ بإمتياز !!!
قاطَعَتني وكأنَّها تنهَرُني ، بِشيءٍ يَجْمَعُ بين فَجاجَةِ اللسان، وتَمَنٍّ لَحوحٍ في عَيْنَيها، يَشي بِنبرةٍ أقوى من القول: نَعم أُحِبُّ القلوبَ الأنيقة ، ما المُشْكِلة ؟! إنّهُ حقيَ. فَفِيني لِلْمَواجِعِ مَقابِرٌ لا تَنامُ ولا تُنِيمْ. تُوَسْوِسُ ليلَ نَهار.
بَدَلَ سُخْرِيَتكَ التي تشي بها نبرة صوتك، قُلْ لي من فضلك، كيفَ تكون أناقةُ القلوبِ العاشقه. فأنا مع صاحِبُكَ مُدْبِرَةٌ، وبالتأكيدِ على غَيْرِهِ مُقْبِلَة.
إمْتَصَصْتُ قَهْقَهتي على عجل، وهي تَسْتَكْمِلُ دَنْدَنَـةً مكتومةً، وحاولْتُ الدندنةَ أنا الآخرَ، فقلت: دعينا نجدد قهوتنا، ونتمشى قليلا في الهواء الطلق، فللحديث بقية يا سيدتي….