الشهيدة البطلة دلال المغربي قصة جمهورية تستحق أن تبقى في الذاكرة
النشرة الدولية –
كتب الدكتور سمير محمد أيوب
ولو بعد ألف سنة وسنة، سيظل أطفالٌ كشقائق النعمان، يقرأون عن النهر الذي عاد إلى منبعه، عن الحادي عشر من آذار 1978، يوم أحد عشر كوكبا عربيا دُرِّيّاً، أعظم من كلّ بهلواناتِ أمّتهم، في لحظة من لحظات التجلي الثوري، غادروا اللغة السائدة واخترعوا لغة مكَّنت دمهم الطاهر، من تأسيس أول جمهورية فلسطينية داخل باص، ولأول مرة بقيادة شابة فلسطينية إسمها دلال المغربي، تمكنوا بالقوة من تأسيس دولة مستقلة كاملة السيادة، بعد أن رفض جُلُّ العالم الاعتراف لهم بحق تأسيسها.
إستولوا على باص من باصات النقل العام، وركبوه وعلى طريق طوله 95 كلم في عمق الأرض الفلسطينية المحتلة، رفعوا عليه راية فلسطين وحولوه إلى عاصمة مؤقتة لجمهوريتهم، واتجهوا به من المنافي إلى قلب عدوهم وعقر داره في تل أبيب. وحين طوقتهم قوات العدو ولاحقتهم طائراته فجروه وانفجروا معه. لا يَهُم كم من الزمن دامت الجمهورية، فالأهم أنها قد تأسست، وكانت دلال المغربي أول رئيسة لها.
في التاريخ الفلسطيني المعاصر، عناقيد كثيرة من البطلات والأبطال، لكن دلال المغربي من الباقين في الذاكرة الفلسطينية، رغم مرور كل هذا الوقت على استشهادها مع رفاقها في تلك العملية المميزة. فلا يخفى على أحد، بعيدا كان عن النضال المعاصر لتحرير فلسطين، أم منه كان قريبا، أو مقيما في أيٍّ من معارجه، أن الصراع الوجودي مع المحتل، كان ولا يزال ممتدا في كل الآفاق، تشهد المنازلات فيه قوافل من الشهداء، وشلالات من الدم الطازج، لم تكن البطلة دلال المغربي حالة مستجدة أو عابرة فيه، بل جسرا نوعيا مميزا، بين أبطال الثلاثاء الحمراء 17/6/1930، عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي، ومن سَبقنَها من مناضلات من أمثال رجاء أبو عماشة، وشادية أبو غزاله ولينا النابلسي ومن لحقن بها من أمثال سناء محيدلي وتيريز هلسه ووداد قمري. لم تكن عمليتها الاستشهادية هي الأولى في تاريخ النضال من أجل فلسطين، ففي 31/5/1972 شهد مطار اللد، تدشين مرحلة جديده من النضال بالعمليات الاستشهادية، افتتحها دم مناضلين يابانيين منخرطين في العمل من أجل فلسطين، تلتها عملية الخالصة الاستشهادية في 11/4/1974، ومن بعدها تتالت عناقيد العمليات التي توجتها دلال المغربي ورفاقها الأبطال في عمليتهم المميزة.
من أرض الزيتون والأنبياء جاءت شابة بنكهة الحزن والعنفوان، أصولها من يافا وإن ولدت عام 1958 في مخيم صبرا في بيروت. خلعت قيود التقاليد المعرقلة، وذهبت إلى قتال يصنع الحياة، فقلبت موازين المحتل وأربكت حساباته.
دلال مغربي، التي عرفتها عن قرب في لبنان، ممرضة بمستشفى غزة في مخيم صبرا التابع للهلال الاحمر الفلسطيني، فحينها كنتُ أعمل مديرا لجهاز الاعلام والعلاقات العامة وجهاز المتطوعين في الهلال، قرَّرَتْ أن تكرس حياتها للنضال. بعد أن كانت قد إلتحقت بحركة فتح وهي على مقاعد الدراسة، وأنهت عدة دورات عسكرية، مبكرا عرفت بجرأتها وحماسها الوطني والثوري.
في الساعة 18:40 من يوم السبت الموافق 11-3-1978 على بعد 12 ميل بحري من الساحل الفلسطيني، أنزلت باخرة تجارية دلال وفرقتها. استقلوا قواربهم المطاطية التي أوصلتهم إلى نقطة على شاطئ يافا القريبة من تل ابيب. نجحت عملية الإنزال والوصول إلى الشاطئ دون أن يكتشف العدو ذلك، فلم يكن يتوقع مثل هذه الجرأة من الفلسطينيين.
وكما نجحت الفرقة في الوصول إلى الشاطئ، نجحت في الوصول الى الشارع العام المتجه نحو تل أبيب. ونجحت في السيطرة على باص كبير بركابه الثلاثين، وأجبروه على التوجه بهم نحو تل أبيب. وفي الطريق استطاعت المجموعة السيطرة على باص ثان ونقل ركابه إلى الباص الأول، وتم احتجاز الجميع كرهائن. وعندما أطلّت المجموعة على مشارف تل أبيب، كلف العدو فرقة خاصة من الجيش، يقودها إيهود باراك لمواجهة هذه الكوكبة المناضلة، ووضع حد للعملية بأي ثمن.
جرت معركة عنيفة، مع نفاذ ذخيرة الأبطال، استشهدت دلال ومعها ثمانية من رفاقها بعد ان كبدوا العدو أكثر من ثلاثين قتيلا وثمانين جريحا. أما الاثنان الآخران فقد وقعا في الأسر جرحى، وحين سأل باراك الأسرين الجرحى عن قائد المجموعة، لم يصدق ما سمع فأقبل على دلال يقلب جثتها ويشدها من شعرها، ويركلها بقدمه بشراسة وصلف لا يقر بحرمة الجثث.
تركت دلال وصية مؤرخة في 2/2/1978، يطلبون فيها من رفاقهم حمَلَة البنادق تجميد التناقضات الثانوية وتصعيد التناقض الرئيس مع العدو، وتوجيه كل البنادق اليه حتى تحرير كامل التراب الفلسطيني.
جثمان دلال المغربي كان على قائمة الجثامين التي طالب بها حزب – الله اللبناني في إطار صفقة لتبادل الأسرى، أُبرمت مع إسرا- ئيل في السابع عشر من شهر تموز 2008، ولكن فحوض الحمض النووي للجثة المعادة أظهر أن الجثمان الحقيقي لدلال، لا زال محتجزا في “مقابر الارقام”.
رغم القبح العاري الماثل حول الشباب في فلسطين وكل بلاد العرب، ودهاليز الحيرة التي تصطادهم، لم يجلسوا منتظرين ولا مُتَمَنّين، وفي بالهم كل حبة تراب في فلسطين، تخلصوا بإرادتهم من تبعات تلك الحيرة وذاك القبح، وهم يدركون أن الحرب الوجودية مع عدوهم، لن تنتهي بسرعة ولا بضربة حظ، تجاوزوا بحماسة فوضى المشاهد وأسئلة الحياة، وتصدوا لواقعهم المرتهن للضعف والحيرة والتامر، وقدموا طواعية دمهم العاري عَصْفَ أملٍ يطارد العدو في كل مكان، ويمزق كبرياءه، لتحريرها من آخر الماء في البحر، إلى أوله في نهر الاردن.
لتبقى فلسطيننا، أقوى من انحراف جلِّ قادتها وتشققاتهم، ومن غطرسة عدوها، ومن “الشقيق” المُتصَهين، الهارب لعجزه، أوالمتخلي عنها حتى لا يخسر “أصدقاءه الكبار” في عواصم المصالح والتآمر، ستبقى تقاتل بكل الأسلحة وعلى مدار الساعة، ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.