هل الهويات قاتلة فعلا؟* مالك العثامنة
النشرة الدولية –
في مقاله أواخر ديسمبر الماضي، تحت عنوان ” قشوع وفلسطين وهجرته إلى أميركا”، يبدأ الزميل، حسين عبدالحسين، نصه بالجملة التقديمية التالية: “صدر كتاب ‘تعقُّب التعديلات’ للروائي الفلسطيني سيد قشوع، وهو عربي إسرائيلي هاجر إلى الولايات المتحدة صيف 2014”.
في تلك الجملة وحدها تعريف بأربع هويات لشخصية واحدة، فلسطيني ثم عربي وإسرائيلي وفي النهاية مهاجر إلى أمريكا.
ولأن الزميل عبدالحسين راصد ذكي وماهر في التقاط المفارقات فلا أعتقد أن استهلاله في مقاله هذا كان صدفة، فكان رصفه للهويات التعريفية مقدمة لبداية قصفه التقليدي على قصة هجرة الكاتب الإسرائيلي – العربي سيد قشوع، وكلما توغلت في المقال أكثر، كانت دهشتي تزداد من تطرف الزميل المحترم الذي أتابع مقالاته كقارئ مهتم.
تطرف وتعصب زميلي في منبر “من زاوية أخرى” في الحرة يصل إلى أقوى تجلياته في حكم القيمة الذي أطلقه على “الروائي” سيد قشوع بأن أعماله شيقة لكنه يستدرك بأن قشوع ليست لديه معرفة عميقة بشؤون التاريخ والعلوم السياسية (!!)، ثم يضرب حسين ضربته بقوله : “لكن إن كان قشوع جديا في طلبه المساواة مع اليهود، فعليه أن يتبنى إسرائيل كدولته، لا بجعله العبرية لغته فحسب، بل في قبوله أنه لو قامت دولة فلسطينية مجاورة لإسرائيل، وانخرطت فلسطين في حرب ضد إسرائيل، فعلى قشوع وأولاده القتال في صفوف إسرائيل ضد فلسطين”.
عبارة الزميل المحترم ذكرتني بذات حكم القيمة الذي نصه مؤسس حزب البعث العربي، ميشيل عفلق، في بيان تأسيس الحزب حين قرر أن من قضى ٢٠ سنة بين العرب فثقافته عربية بالضرورة! وهو ما سلب كل القوميات الأخرى حقها الوجودي كثقافات مستقلة وحاضرة ورديفة ومتشابكة.
وطروحات الزميل عبدالحسين عموما في مقالاته تجعلني أقارنها كثيرا بطروحات البروفسور والسياسي الأميركي من أصل لبناني الراحل، فؤاد عجمي.
بكل الأحوال، وعلى عكس الزميل المحترم فأنا شخصيا لا أزال عند اعتقادي بأن الصراع الفلسطيني (العربي) – الإسرائيلي هو سياسي أكثر منه صراع ثقافي.
أتفق مع كثير مما ذهب إليه عبدالحسين حول مفهوم الدولة والمواطنة، لكن أجد نفسي على اختلاف معه في مسألة المقارنات التاريخية بين اليهود والعرب في ظل كيانين مختلفين لا يمكن المقارنة بينهما، أحدهما إمبراطورية توسعية استبدادية ثيوقراطية كان العرب فيها مثل اليهود تحت سلطة الباب العالي ومزاجه في كل تفاصيل حياتهم البائسة.
أما الأخرى دولة حديثة بمؤسسات مدنية وبرلمانية لكنها، وبإجماع دولي، لا تزال تحمل صفة الاحتلال العسكري الذي يبحث عن حلول وسلام لا يزال مفقودا، والمواطنون العرب فيها يتمتعون بمواطنة حقيقية أفضل حالا بكثير من أقرانهم في المحيط العربي كله، لكنهم أيضا يعانون من تمييز، مهما كان خفيفا، إلا أنه ملموس في حياتهم اليومية. غير جيرانهم العرب من غير الإسرائيليين، الذين يعانون احتلالا عسكريا منذ عام ١٩٦٧ من جهة، وتغول أمني بالوكالة عن الاحتلال من قبل سلطة فاسدة منتهية الصلاحية من جهة أخرى.
سيد قشوع، عربي من إسرائيل، والده موظف بنك ووالدته معلمة، مما يجعله من طبقة وسطى مرتاحة خولته الانتساب لمدرسة مرموقة وعبرية يهودية في القدس، ليدخل بعدها الجامعة العبرية ويعمل بعد تخرجه في الإعلام وبلغة عبرية كاملة الجودة، ثم يقرر الهجرة ويكتب ما كتب من وجدانيات، وهذا حقه الشخصي، وفيما كتبه نتلمس نواقص “الدولة” في إسرائيل، ودولة ” النواقص” في سلطة الحكم الذاتي.
أنا أقيم في بلجيكا، وبلجيكا دولة بقوميتين، (ثلاث قوميات إن أردت احتساب الأقلية الألمانية الضئيلة فيها).
الدولة البلجيكية وصلت إلى صيغة عقدها الاجتماعي والسياسي في مرحلة مبكرة من التاريخ الحديث، فكانت احتواءً ناجحا ومميزا بين قوميتين كانتا على نزاع حقيقي عبر التاريخ، وهما القومية الفلمنكية (ولغتها وثقافتها هولندية)، والقومية الوالونية (ولغتها كما ثقافتها فرنسية).
لا يتحسس البلجيكيون، بشتى أصولهم ومنابتهم، مطلقا من مقولة إن دولتهم “مصطنعة”، فهي كذلك، وهم فخورون بأنها استمرت وستستمر نموذجا لترسيخ مفهوم الدولة بكل عناصر المواطنة فيها.
في تلك الدولة البلجيكية، التي هاجرت إليها قبل عشر سنوات، تعرفتُ إلى الصحفي التلفزيوني والكاتب البلجيكي العربي الفلسطيني المولود في دبي، مجد خليفة.
وخليفة، مثل سيد قشوع، ليس معروفا في العالم العربي، لكنه مشهور بشكل جيد في بلجيكا، تحديدا في الوسط الهولندي هنا، كما أنه معروف في هولندا أيضا، فهو منتج أخبار في القناة الأولى الناطقة بالهولندية، وهو كذلك مخرج لأفلام سينمائية بالهولندية، كما أنه مؤلف لكتاب باللغة الهولندية كان من أكثر الكتب مبيعا عام ٢٠١٨، وعنوانه ” ولدت من جديد” وفيه تلخيص مكثف لمعنى المواطنة عبر سيرة الكاتب الذاتية.
مجد أصغر مني بعشر سنوات، لكنه نموذجي الحقيقي في الاندماج والمواطنة والقيمة الثقافية للأصول والمنابت. كلما كان هناك نشاط عربي أو فلسطيني مسرحي أو ثقافي أو فني، يتصل بي مجد ويدفعني دفعا للحضور برفقته وبمعيته، ولا أخفي أنني أستمتع فعلا بتلك النشاطات والفعاليات.
لكن مجد، الذي يتقن اللغة الهولندية (الصعبة فعلا) حد تأليف كتابه بها، وهو يتقن الفرنسية والإنكليزية، لا يهادن مطلقا في مواضيعه الصحفية بمفهوم المواطنة، وخلال عمله في تقاريره المتلفزة عن قضايا اللجوء والمهاجرين يركز دوما على تلك النقطة ويبرزها كقاعدة مقدسة لا يجادل فيها.
كما يؤمن مجد بثقافته الفلسطينية ويحبها، ويؤمن بالسلام كقيمة حقيقية لا كتوليفة حل مؤقت للصراع، وكبلجيكي يمارس حقوقه السياسية كمواطن كامل الأهلية فهو يعرف أين يضع صوته في خدمة مواقفه التي يؤمن بها.
وفي ذات سياق الأصدقاء، وعلى ضفاف مفهوم المواطنة، صديقي، أحمد تيم، وهو عربي إسرائيلي وفرنسي أيضا، حيث تعلم وعمل كخبير نبيذ، وعاد بعد سنوات طويلة ليعيش في عكا، تهاتفنا قبل أيام وحدثني ضمن ما حدثني به عن سهرة رأس السنة التي قضاها مع رفقة من أصدقاء في إسرائيل في “إعبلين” وفي بيت مضيفهم وهو عالم عربي إسرائيلي.
وفي حديثه استوقفتني عبارة “عالم” فسألته عنه فأخبرني أنه الدكتور” فلان” الذي يشغل موقعا متقدما في معهد التخنيون، وهو عربي فلسطيني إسرائيلي.
تلك الجزئية من الحوار دفعتني أن أرسل مقال حسين عبدالحسين إلى صديقي واسع الثقافة والوعي تيم، فقرأ المقال وأخبرني أن سيد قشوع كاتب له وزنه وقيمته الأدبية في الوسط العربي في إسرائيل، واستطرد تيم بشرح الحالة العربية – الإسرائيلية مؤكدا لي “كفلسطيني” يعيش فوق أرضه أن الصراع سياسي، وأن رجلا مثل نتنياهو هو الوجه الآخر لمتطرفين مثل قيادات حماس.
كلام تيم، ذكرني بطريقة ما بحالة الهوس التي أصابتني كمشاهد أدمن متابعة مسلسل “فوضى” الإسرائيلي على منصة نتفليكس.
لا أتحدث عن المسلسل وحكايته وإنتاجه المشغول باحترافية عالية ترفع نسبة الأدرنالين في الدم إلى مستويات قياسية، لكن في ما وراء هذا الإنتاج التلفزيوني الإسرائيلي والذي دفعني أن أتواصل مع عدد من أفراد طاقمه واستطعت التواصل قبل عامين مع آفي ايساتشاروف، مؤلف المسلسل وكاتب قصته، وهو صحفي إسرائيلي يهودي من مواليد القدس مثل قشوع (ومن جيله أيضا)، ويتحدث ويقرأ العربية بشكل جيد.
بعد مراسلات صوتية عديدة لم نجد وقتا لحوار صحفي عن المسلسل، والتقصير مني أنا بعد انشغالي بمواضيع عديدة، لكن من بين ما كان يشغل تفكيري في المسلسل، هو نجومية أبطاله الإسرائيليين العرب، خصوصا الممثل الشاب، شادي مرعي، الذي أدى شخصية “وليد العبد” وجسدها بأداء أسطوري خلق منه نجما في إسرائيل.
كان سؤالي حينها (ووجهته لذاتي مع كثير من التفكير): هل كان لشاب مثله أن يجد تلك الفرصة وهذا التقدير لو عاش في الجانب الاخر من الخط الحدودي؟
كنت سأسأل آفي عن رقم هاتف مرعي لأسأله هذا السؤال، وربما سأفعل ذلك قريبا.
وفي سياق الهويات، والمواطنة والدولة، أنا أردني، والدي – رحمه الله- من حوران، لكني من مواليد مدينة الزرقاء “مختلطة الهويات”، أمي قوقازية من القوقاز المهاجرين إلى الأردن بدايات القرن العشرين.
زوجتي والدها سوري من حلب، كان يتحدث التركية مع والدته (جدة زوجتي)، ووالدة زوجتي مجرية كما أن زوجتي مواليد بودابست.
ابنتنا الوحيدة بترا، هي مزيج كل تلك الهويات، لكنها مواليد مدينة “خنت” البلجيكية، وابنتي تتحدث الهولندية بذات طلاقتها باللغة العربية وكذلك الهنغارية وتتقن الإنكليزية.
أنظر إليها، فأتعلم من تلك الثماني سنوات، التي تنمو وتكبر أمامي، دروسا إضافية في مفاهيم المواطنة والهويات ومعنى الدولة.
ومما تعلمته ضمنا، أن الهويات قاتلة إن لم تحتويها المواطنة، والمواطنة لا تتوفر بدون دولة حقيقية مكتملة المؤسسات.