ماذا بعد الهجوم على الكونغرس؟* د. سهير ابو عقصة داود
النشرة الدولية –
في حين تحتل صدمة اختراق مباني الكابيتول المبنى التشريعي في الولايات المتحدة -بشقيه مجلس الشيوخ ومجلس النواب- والتقصير الأمني والأيام المتبقية القادمة من ولاية الرئيس دونالد ترامب ومحاولة عزله للمرة الثانية ومنعه من التغريد عير تويتر، تحتل الاخبار الأساسية، يجري تركيز اقل عن مخاطر اليمين المتطرف. هذا اليمين المتطرف موجود قبل وجود ترامب وسيبقى بعد رحيله ولكنه تلقى دفعة قوية وصفاقة بتشجيع من رئيس يعاني من مرض جنون العظمة: مرض يعاني منه الدكتاتوريون بشكل عام. وغير مؤكد بعد اذا كان هذا الاختراق مبرجا منذ البداية ام انه كان عفويا ولكن درجة التسلح التي تواجدت مع مئات المتظاهرين تشير ان لدى بعض المتطرفين من انصار ترامب اجندة ارهابية هدفت الى تخريب عملية سياسية وان هؤلاء لم يأتوا الى ساحة مبنى الكونغرس للاحتجاج الشرعي على ما يرونه ويزعمونه من تزوير للانتخابات لصالح بايدن الديمقراطي. لقد كانت لهم اجندة تخريبية وهذا العمل الإرهابي الداخلي يجب ان يلاحق بلا هوادة خاصة جماعة “براود بويز-الأولاد الفخورون” وهي جماعة شوفينية فاشية خطيرة موالية جدا لترامب والمثير انها تؤمن بسيادة العرق الأبيض وضد المهاجرين مع ان قائدها الشاب انريكه تاريو (36 عاما) من اصل كوبي افريقي وكان لهذه الجماعة تواجد قوي في احداث الهجوم على الكونغرس.
وتاريخيا بقيت هذه الجماعات تعمل بصمت وهي تفوق المائة منظمة منها على الأقل عشرة منظمات فاعلة شديدة الخطورة (وهي تختلف أيديولوجيا وتكتيكيا واهمها المؤمنون بتفوق العرق الأبيض والمعادون للحكومة والنظام وهذه المنظمات تتحمل مسؤولية 90% من اعمال الإرهاب الداخلي في أميركا في السنوات السابقة ويفوق خطرهم خطر القاعدة والدولة الاسلامية). وقد ازدادت قوة وتحرك هذه الجماعات بعد تفشي وباء كورونا وفقدان العديد لوظائفهم والاستقطاب الحاد الذي اشتد بسبب الانتخابات الاميركية الاخيرة وخطابا الكراهية للرئيس ترامب الذي شجع هذه الحركات واذا لم يتم التركيز على مكافحتها ستشهد الولايات المتحدة أياما اصعب وسيكون ما شهده الكونغرس في الأيام الماضية مزحة بالنسبة لما سيأتي لاحقا.
ورغم اليوم الأسود الذي تعرضت له الديمقراطية الاميركية الا ان التعامل السريع مع الازمة يعطي مؤشرات ايجابية ومنها تخلى اشد المناصرين من الحزب الجمهوري الملتفين حول ترامب عنه والانقلاب ضده، واستقالة العديد ممن كان يعمل معه، واستقالة رئيس شرطة الكونغرس وعدد من ضباط الامن في العاصمة ولعل الأهم هي قدرة الكونغرس على الانعقاد والتصديق بدون مشاكل على نتيجة الانتخابات وعلى بايدن رئيسا منتخبا جديدا رافضين الانصياع لمساعي ترامب الحثيثة، والتي انتاب بعضها التهديد، لقلب نتيجة الانتخابات.
ولتصريح ترامب أخيرا بانه سيسعى الى انتقال سلس وسلمي للسلطة اهمية قصوى رغم انه لا يمكن الوثوق بما قد يقوله او يفعله في الأيام المتبقية القادمة وبالنهاية قد يتعرض أي نظام لازمة وتهديد المهم هو التعامل مع الازمات، ادارتها والخروج منها بسلام..
يعتبر الانتقال السلمي للسلطة من اهم ركائز الانظمة الديمقراطية وتعرضت هذه الركيزة الى هجوم مستمر وخطر في الشهريين الماضيين منذ اطلق ترامب حملة هوجاء لا أساس قانونيا لها بأن الانتخابات سرقت منه واقنع بهذا ملايين من مؤيديه بهذا مصدقين لأكاذيبه رافضين لقرار المحكمة العليا التي عين ترامب ثلاثة من قضاتها (من اصل تسعة) ولمحاكم الولايات والكثير منها جمهورية، كلها رفضت مزاعمه حيث فشل هو وفريقه القانوني في ان يقدم أي اثباتات بالتزوير مع العلم بعض العمليات اللا نظامية تحدث في كل الانتخابات وفي كل الديمقراطيات.
ترامب قال بعدم حضوره المراسيم 20 في يناير القادم، وحتى لو أراد يجب ان يمنع من ذلك فهذا رئيس تسبب بجريمة لا يمكن غفرانها بحق شرطي مسكين قتل في الاحداث وبحق دولة عظمى لطالما تباهت بنظامها وبديمقراطيتها. والديمقراطيات ليست معصومة من الاحداث الصادمة والاحداث الدامية وعن الثورات والانقلابات او محاولات من هذا النوع واميركا ليست معصومة ايضا فالتاريخ الأميركي ليس تاريخا سلسا والديمقراطية الاميركية مليئة بالتناقضات والصدمات فهي النظام والثقافة التي تقدس الحرية ولكنها في نفس الوقت انتجت نظام العبودية القسري وهو النظام الذي احتضن الأقليات واللاجئين من كل العالم لكنه نظام تتأصل فيه العنصرية بشكل مرضي. هو بلد الاختراعات الطبية في حين ان ملايين المواطنين يموتون لان ليس لديهم تأمينا صحيا. هو بلد الإمكانات غير المحدودة ولكنه أيضا بلد تقوم ثقافته الفردية على الدوس على الفقراء. وقد اغتيل اربعة رؤساء خلال ولايتهم اولهم ابراهام لنكولن محرر العبيد 1865 واخرهم جون كنيدي في ستينات القرن الماضي وكانت هنالك على الأقل عشرة محاولات أخرى باءت بالفشل منها ضد الرئيس رونالد ريغان في الثمانينات. وشهدت المدن الاميركية خرابا وعنفا في العديد من المناسبات والاحداث وابرزها في ستينات القرن الماضي عام 1968 بعد اغتيال الزعيم الأسود المناضل مارتن لوثر كنغ في العاصمة واشنطن وقد عاث المتظاهرون والمشاغبون فيها فسادا وخرابا وسرقة والتظاهرات بعد مقتل جورج فلويد على يد شرطي أبيض الصيف الماضي ولكن لم يحدث ان يتم كل هذا بتحريض من رئيس منتخب كما حدث في حالة ترامب ولم يحدث هذا الاختراق للمبنى التشريعي كما حدث مؤخرا.
ارتكب ترامب خيانة عظمى وعليه ان يحاكم بتهمة الخيانة العظمى. ولكن المشكلة ان ترامب لم يخلق ترامب الرئيس بل خلقته الظروف التي اوصلته الى هذا المكان، الجماعات الارهابية التي تقف من وراءه، المواطنون الغاضبون بسبب وضعهم الاقتصادي ومن سياسات الحزب الاخر واعتقدوا ان ترامب سيحل مشاكلهم ومنهم العديد الذين لم يؤيدوا الاقتحام ورفضوه. فالـ 75 مليونا الذين صوتوا لترامب ليسوا مجموعة متجانسة بل مجموعات وافرادا ذوو أفكار واجندات مختلفة ومصالح مختلفة والاعلام الذي أتاح له مساحة التحريض الدموي وحين يذهب ترامب سيبقى هؤلاء وهذا هو التحدي الأكبر. كيف سيتم التعامل من قبل الادارة الجديدة، قوى الامن والقانون، الحزب الجمهوري، الاعلام والمواطن العادي مع كل هؤلاء وبالذات مع الجماعات التي تتربص للانقضاض على النظام. وللأسف ان التعامل مع الإرهاب الداخلي ليس على القدر المطلوب واذا استمر الوضع كذلك ستكون هذه نهاية اميركا.