“أميغدالا” أو إشارات البحث عن المعنى… الأشياء المهملة تسرد الحكايا في أعمال الفنان مارون أسمر

النشرة الدولية –

ميموزا العراوي –  صحيفة العرب

يتيح “الجانك آرت” للفنانين مجالا واسعا لاستخدام مواد غريبة كالمهملات، والاعتماد عليها كمادة أولية للتعبير الفني عوضا عن مستلزمات العمل التشكيلي التقليدية، فتصبح اللوحات فضاء أكثر حرية ورحابة لتجسيد المعاني والموضوعات الفنية.

لا يزال حادث تفجير المرفأ في شهر أغسطس الفائت يلقي بظله الوحشي على النفوس ويستمر في تصريف سمومه، كما في حلقات التطهير النفسية، في مساحات العرض الفني، ولاسيما تلك الأماكن التي أعيد ترميمها بعد الانفجار، وتلك التي نشطت على هامش “الوعكة” المُزلزلة التي أصابت الصالات المتخصصة بالعرض التشكيلي.

من تلك الأماكن نذكر “زيكو هاوس” المساحة المفتوحة لكل الأنشطة الثقافية، وليس التشكيلية فحسب، والتي افتتحت مؤخرا معرضا للفنان المتعدد الوسائط مارون أسمر، وهو من مواليد 1977، تحت عنوان “أميغدالا”، وضمّ عددا كبيرا من الأعمال الفنية التي يمكن وصفها للوهلة الأولى بأنها منبثقة من فن “الجانك آرت”.

“أميغدالا” عنوان لافت اختاره الفنان اللبناني المتعدد الوسائط مارون اسمر لمعرضه الفردي الخامس، الذي افتتح في 18 ديسمبر الماضي وسيستمر إلى 20 جانفي الجاري مع مراعاة لشروط التباعد الاجتماعي وحمل الكمامات الوقائية.

امتازت أعمال الفنان بتنوع كبير، ولا شك أن طول الفترة التي استغرقها مارون أسمر لجمع “المواد الأولية” للأعمال، من قطع وخردة وأوراق، ساهمت في تخصيب خياله الفني لينتج أعمالا تتكلم عن الشك والسلم والحرب والتشظي النفسي والجسدي وعن الحلم الطفيف وسط الكوابيس وعن الثورة والرغبة في الحياة والتعاضد ما بين أفراد المجتمع، الذين يختلفون في ما بينهم لناحية خلفياتهم الاجتماعية والسياسية.

واللافت أن أسمر لا يعتبر ذاته فنانا كما قال لنا ولكن أعماله هي بحث بصري واضح جدا وهذا من أول وأهم مقومات الإبداع الفني.

“أميغدالا” تعني باللغة العربية “اللوزة الدماغية” أو “اللوزة العصبية”، وهي جزء من الدماغ يشارك في إدراك وتقييم العواطف والمدارك الحسية والاستجابات السلوكية المرتبطة بالخوف والقلق، يلتقط إشارات الخوف من حواس الإنسان، ويلعب دورا شبيها بجرس الإنذار.

وحول هذا العنوان يقول مارون أسمر لـ”العرب”، “إن هذه الإشارات ليست محصورة بالحزن أو الخوف ولكنها أيضا تتعلق بالمواقف والأحداث الإيجابية كذكرى جميلة من الطفولة ظهرت حين رؤيتك على سبيل المثال لحديقة أو بيت ما”.

على الرغم من تأكيد الفنان على اتساع معنى الكلمة التي جعلها عنوانا لمعرضه إلا أن معظم الأعمال الفنية المعروضة تحيل المُشاهد إلى تخطّيات مؤلمة وحوادث لم تغر تماما صاحبها بالنسيان.

أما الأسلوب الذي اتبعه الفنان التشكيلي في مجموعته الفنية الجديدة فهو منبثق ممّا جرت تسميته بـ”الجانك آرت”، أي الفن الذي يستخدم المهملات كمادة أولية للتعبير الفني عوضا عن الملونات من المواد.

وينطلق أسلوب الفنان مارون أسمر من حركة فنية أسس قواعدها الفنان الفرنسي مارسيل دوشان، رائد الحركة الدادائية في الفن، حركة قوامها تقديم غرض مُهمل أو محطم تم العثور عليه، على أنه عمل فني “جاهز” بعيدا عن الفن التقليدي بمواده ومواصفاته. ولا يخرج فن مارون أسمر عن دائرة هذا الفن الذي جاء كردة فعل على شناعة وعبثية الموت (كذلك موت القيم الإنسانية) في فترة ما بعد الحرب العالمية. غير أن فن مارون أسمر لم يقف هنا بل اعتمد على توليف بصري لأشياء محطمة أو غير صالحة للاستخدام كان قد عثر عليها في أماكن خلال سنوات مختلفة، لذلك تبدو أعماله الفنية أقرب بكثير إلى “الجانك آرت” من منطق مارسيل دوشان الفني.

أسلوب الفنان اللبناني ينطلق من الحركة الدادائية التي أسس قواعدها الفنان الفرنسي مارسيل دوشان

ويحكي الفنان لـ”العرب” أنه كان شغوفا بمنطق الكولاج الفني منذ أن كان في الثامنة عشرة من عمره وأن انطلاقته الفنية كانت سنة 2000 في معرض فني أقامه في المركز الثقافي الفرنسي في بيروت.

ويضيف مارون أسمر أنه كان يهتم بجمع ما يعثر عليه من أشياء وأغراض محطمة وممزقة ومخلفات لحوادث مؤلمة آخرها تفجير المرفأ حتى قبل أن يحدد كيف يمكن أن يستخدمها وفي أي إطار فني واضح. وبعد حدوث الانفجار اتجه إلى المكان ولملم شظايا الزجاج وقطع القماش الأبيض ولوحات فارغة ممزقة لم يُرسم عليها بعدُ، فألف بين تلك الأشياء الممزقة كي يصنع منها أعمالا فنية تعطيها معنى ما وحياة جديدة.

وحول فكرة تقديم هذا المعرض خلال هذه الفترة الحرجة جدا من حياة لبنان يقول أسمر “توقفت عن العمل الفني لمدة عشرين سنة بسبب الانهماك في عملي، متجها إلى إنتاج وإخراج أفلام وثائقية، غير أنني لم أتوقف عن جمع الأشياء المهملة والقطع المكسورة إحساسا مني بأنني سوف أستخدمها يوما ما في أعمال تركيبية/ توليفية. ثم جاءت فترة الحجر الصحي الطويلة فوجدت نفسي وجها لوجه في البيت مع مقتنياتي التي حصدتها عبر السنين، فبدأت العمل بتشجيع واهتمام كبيرين من زوجتي التي ساهمت في نجاح هذا المشروع.

ويعتبر أسمر أن مشروعه منفذ للتعبير الفني المفتوح على التأويل ولكنه ليس مشروعا دون أهداف أخرى. فقد أقيم مزاد علني في مبنى زيكو هاوس البيروتي في 26 ديسمبر الماضي تزامنا مع فترة الأعياد، وعاد ريع مبيعات الأعمال الفنية إلى منظمة “نساعد كي ندعم شعبنا”، وهي مؤسسة خيرية هدفها مساندة ضحايا تفجير مرفأ بيروت.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button