المرض “الغامض” الذي يفتك بالديمقراطية* فارس خشّان
النشرة الدولية –
تعاني الديمقراطية، كنظام حكم، منذ مدة من “مرض غامض”. ما حصل في واشنطن، في السادس من يناير الجاري، في محاولة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب لمنع الكونغرس من التصديق على انتخاب جو بايدن خلفاً له، ليس سوى عارض حاد من عوارض هذا المرض الفتّاك.
حتى الساعة، لا تزال الديمقراطية قادرة على معالجة نفسها بنفسها، بفعل ما تتمتّع به من مناعة أكسبتها إياها العقود والتجارب والكبوات والأعراف، ولكن ثمّة خشية حقيقية من أن تضعف هذه المناعة مع الأيّام، إذا لم تنصب الجهود على معالجة أساس هذا “المرض الغامض”.
منذ سنوات، ينكب الباحثون على تشخيص هذا المرض، من دون أن يتوصّلوا الى نتائج حاسمة.
في تشخيص هؤلاء برزت احتمالات وترجيحات، أبرزها الوهن الذي يصيب الثقة بالمؤسسات التي ترتكز إليها الديمقراطية، الأمر الذي يوفّر لنظريات المؤامرة آذاناً صاغية، تُفيد أكثر ما تفيد، التوجهات الديكتاتورية.
وإذا ما جرى التدقيق في ردّات الفعل الدولية على اقتحام مناصرين لترامب للـ”كابيتول”، ندرك، بطبيعة الحال، أنّ الاحتفالات عمّت مقرّات الطغاة والسفّاحين و”الرؤساء الى الأبد” الذين راحوا، من أمام أبواب معتقلاتهم وعلى قبور ضحاياهم، يلقون الدروس عن “الديمقراطية الحقة”.
فعلوا ذلك، على الرغم من أنّ “مسيرة السادس من يناير”، أثبتت أنّ الرئيس الأميركي، وإن شاء، فهو خلافاً لهؤلاء الطغاة، لا يتحكّم لا بقدر بلاده ولا بمصير شعبه، فحكمه على الانتخابات ليس “حكماً إلهياً” بل وجهة نظر ناقضتها المؤسسات المختصة، ومعارضته إيصال خصمه الى البيت الأبيض بقيت أمنية رفضت تلبيتها السلطات المعنية، وشعبيته التي نزلت الى الشارع لم تكن قناعاً لأجهزة المخابرات ولم يحشد لها الموظفون الحكوميون.
وإذا كان دونالد ترامب قد استعار من الطغاة أسلوبهم في “تأبيد” أنفسهم، فهو أدرك، وبسرعة، أنّه ارتكب خطأ حياته، فما يفعله هؤلاء في دول طوّعوها، مؤسسات وشعباً، بالنار والحديد، لا يمكن فعل ما يماثله في الولايات المتحدة الأميركية التي لا يتحكّم بها شخص، مهما كان علو كعبه، بل مؤسسات وقانون ومبادئ.
-2-
على أيّ حال، ما هي مؤشرات هذا “المرض الغامض”؟ تشكّل حرية التعبير الركيزة الأساسية للديمقراطية، فمن دون هذه الحرية لا تمكن مناقشة قرارات الحاكم ولا مساءلته على أفعاله ولا فضح تجاوزاته ولا تهيئة بدائله.
ولكن لحرية التعبير منابر لا بد منها، تتقدّمها وسائل الإعلام التي يرعى القانون عملها، ولذلك فهي تأخذ، بجدية، تبعات المسؤولية عن دقة ما تنشره.
وعليه، فإنّ الحاكم الذي يجد نفسه مضطرّاً الى أن يعود الى شعبه دورياً، إمّا لإعادة انتخابه وإمّا لانتخاب شاغلي السلطات الأخرى في بلاده، يجد لزاماً عليه أن يُخفّف من وطأة الرقابة الإعلامية عليه، بحيث لا تُثير أفعاله أو قراراته، شبهات “المدّعي العام الشعبي”.
“الطغاة” و”السفاحون” و”الرؤساء الى الأبد” أوجدوا حلّاً لهذه المشكلة، فكانت الصحف الموالية التي تشيد بحمدهم وبحكمتهم وبأفضالهم، وكان الاعتقال والقتل والترهيب والنفي حلّاً لأيّ مشكلة تختلقها قلّة قليلة، يمكن أن تعصيَ.
وبما أنّه يستحيل على الحاكم في الدول الديمقراطية أن يفعل كل ذلك، ظهرت، في العقد الأخير، نظرية تهشيم المؤسسات الإعلامية والعاملين فيها.
وهذه النظرية أخذت مداها مع الثورة التكنولوجية الأخيرة التي لم تشهد نمواً منقطع النظير للمواقع الإلكترونية فحسب، بل النجاح العظيم لمنصات التواصل الاجتماعي، أيضاً.
وهذه النظرية التي تهشّم حرية التعبير ومنابرها، دخلت كعامل جديد على الأنظمة الديمقراطية وبدأت، رويداً رويداً، في تغيير المعادلات.
لم تعد المحاكم تفصل في صحة أو عدم صحة ما تنشره هذه الوسائل من معلومات، بل بات المسؤول هو “المحكمة” و”المرجعية” و”الميزان”، وهو الذي يكذّب ما هو منشور، يهاجم الجهة الناشرة، يسخر منها، يضرب مصداقيتها، ويطلب من ناسه مقاطعتها.
وهذه النظرية، كانت في متن تقرير استراتيجي لل”سي.آي.إي”. ويقول المؤرخ والصحافي الفرنسي ألكسندر آدلر إنّه كان على مكتب دونالد ترامب، عند دخوله الى البيت الأبيض.
آدلر، كان قد نشر، بالتزامن مع انتخاب ترامب كتاباً بعنوان” العالم في العام 2035 كما تراه الـ سي.آي.إي”، وهو ترجمة لتقرير صدر عن “المجلس الوطني للمعلومات” الأميركي.
ولا تحتاج طريقة تعامل ترامب مع وسائل الإعلام الى مراجعة لتحديد طبيعتها، فهو، حتى آخر خطاب له، يهاجمها بعنف ويحرّض الجمهور ضدّها.
وطوال عهده، حوّل ترامب حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، وبالأخص منها “تويتر”، إلى منابر شبه حصرية، يخاطب عبرها صنّاع القرار وجمهوره.
وهكذا، بدأت أفكار الحاكم وميوله وتطلعاته وأهدافه، تصل إلى الجمهور، من دون أيّ واسطة، على أن يلقى كل من يعترض عليه نصيبه من التهشيم والاتهام بشتى الموبقات ومن بينها التآمر.
وهذا السلوك، يسحب نفسه، شيئاً فشيئاً، إلى سائر السلطات والمؤسسات التي تفعل ما لا يتوافق مع هوى أو مصالح الحاكم.
-3-
إنّ النظام الديمقراطي أمام هذه المشهدية، يُصاب، من حيث يدري أو لا يدري، بعدوى الأنظمة الشمولية، إذ يتوهّم الحاكم أنّه “السيّد المطاع” وأنّه “الرابح الدائم” وأنه” يحتكر الحقيقة”.
ويؤدي ذلك إلى نمو الشعبوية التي تفسّر الأحداث على هواها، وتحكم على التطورات بما يناسبها.
ويستفيد الحاكم في انحيازه إلى هذا النهج من أرضية جهّزها له الآخرون، فهو يرث فئات معترضة على النظام، بفعل ميولها المتطرفة التي تتوارثها من فلسفات قهرها الزمن، ويستغل استياء شعبياً من الهوة التي تزداد اتساعاً بينهم وبين “النخبة الحاكمة”، ويتغلغل إلى وجدان فئة واسعة من الناس الذي كوّنته الأفلام والمسلسلات التي تصوّر الطبقة السياسية على أنّها مجرّد عصابة تتوسّل في مسارها كل أنواع الجريمة ومن ضمنها الفساد والتزوير للوصول إلى القمة.
-4-
بطبيعة الحال، لا يمكن اختصار “المرض” الذي تعاني منه الديمقراطية بهذا البعد فقط، ولكن من المؤكد أنّه واحد من أهم مؤشرات هذا المرض، خصوصاً وأنّه يتفاقم كلّما تفاقمت مشاكل الدول والمواطنين، بفعل أزمة اقتصادية هنا أو أزمة وبائية هناك أو أزمة أمنية هنالك، على اعتبار أنّ الناس، في ظلّها، يذهبون للتفتيش عن “مخلّص” وعن “منقذ” وعن “بطل” وعن “ساحر”.
وممّا لا شك فيه أنّ الجمود الذي أصاب الديمقراطية بهاجس مواجهة الأزمات المتلاحقة، سمح للطغاة بترويج أنفسهم ونموذجهم.
وتؤكد نظرة واقعية على خارطة الدول أنّ هذا المنحى يأخذ مداه بدءاً بالمجر الأوروبية وصولاً الى البرازيل الأميركية.
ولهذا السبب بالتحديد، فإنّ الدول الحريصة على الديمقراطية هي الدول التي أصابها اقتحام مبنى الكابيتول بالهلع، ذلك أنّ “الترامبية” ليست حالة معزولة، بل هي حالة عالمية، إذ إنّ في كل مجتمع هناك “دونالد ترامب” ما ينتظر دوره وساعته.
ويدرك هؤلاء أنّ النظام الأميركي الذي يصفه كثيرون بأنّه يبني نفسه على أعرق ديمقراطية في العالم، قادر على مداواة نفسه، لأنّه طالما خاض تجارب قاسية جداً وانتصر عليها، ولكنّ هؤلاء أنفسهم ليسوا واثقين بقدرة الأنظمة التي يعيشون فيها على النهوض من أيّ كبوة قد تصيبهم، وهم الذين سبق لهم أن عانوا الويلات من تجارب كادت تقضي على وجودهم، لولا المساعدة الرائدة التي وفّرتها واشنطن نفسها.
الحاجة ملحّة إلى مداواة الديمقراطية من مرضها، مثل الحاجة الى تحرير الإنسانية من عبء جائحة كوفيد-19.
إنّ “مسيرة السادس من يناير” الترامبية، بكل ما حملته من أبعاد ومن دروس، يمكن تحويلها الى فرصة من أجل القيام بتشخيص دقيق ل”المرض الغامض” تمهيداً لتوفير الدواء اللازم.
وإذا كان رنهولد نايبور قد قال إنّ “نزعة الانسان الى الظلم تجعل الديموقراطية ضرورة”، فإنّ الفرد إي سميث جزم بأنّه “يمكن علاج علل الديمقراطية بمزيد من الديمقراطية”.