الحُبُّ الأنيق – الجزء الثالث ومن حكاوى الرحيل – الحكاية السادسة* د. سمير محمد ايوب

النشرة الدولية –

(يفضل قراءة الجزء الأول والثاني ، قبل قراءة هذا الجزء)

…… بَدَلَ سُخْرِيَتكَ التي تشي بها نبرة صوتك، قُلْ لي من فضلك، كيفَ تكون أناقةُ القلوبِ العاشقه. فقلت: دعينا نجدد قهوتنا، ونتمشى قليلا في الهواء الطلق.

ما أن وصلنا نهاية الممر المحاط بالورد الدمشقي،  كنا قد أتْمَمْنا احتساء قهوتِنا بمتعةٍ آسرةٍ في الهواء الطَّلِق من حولنا ، فجلسنا على مقعدين متقابلين تحت دالية سِنْجِلاويَّة.

تَبصَّرْتُ طويلا في عيونٍ تنتظرُ بقلقٍ، إبتَسَمَت تحُثُّني على القول، فقلتُ: الحبُّ يا سيدتي ، مشروعٌ شُموليٌّ لِلحياة. يُستَدام بِتلاوينِ الرِّعايةِ والرِّفادةِ والسِّقاية. لا يُعَلَّقُ في عُنُقِهِ تَعاويذٌ. ولا يُعاقَرُ على وِسادةٍ خالية، أو وِسادَةٍ تَتَكِئُ على حُجُبِ وطَلاسِمِ المُشَعْوِذينَ، منْ أبالِسَةِ شَمْروخٍ وقبائلُه ومُريديه. فالجمعُ بين الحب  وغير الحبِّ مِنْ إضافاتٍ، هو في أحسن حالاته: تأجيرٌ مجَّانيٌّ للرأسِ القائِمِ بينَ الكتفين ، أو ِنخاسَةٌ عقليةٌ، لا تحملُ لِشيءٍ من الطين فيك، إلا النِّكاياتِ في صِراعِ المَصالِح. الحبُّ يا سيدتي، هو تلك الهشاشة ُالتي تجعلكِ فجأةً  مريضةً بمرضٍ فريدٍ. يُبقىيكِ مَسكونَةً بِحالةٍ من الالتباسِ بين العقل والقلب.

هَمْهَمَتْ بِصوتٍ خافتٍ، بالكادِ أسْمَعُه: ولكن ، كيفَ لي أنْ اعرفَ، أنَّني غارقةٌ في حُبٍّ مِمَّا وصَفْتَ، لا في غبارحب او حُبٍّ مُلْتَبِسْ؟

قلت وأنا ما زلت مُحتَضِناً فنجانَ قهوتي بين كَفَّيْ، مُتَلَمِساً ما كان فيه مِنْ دِفءٍ وعَبَقٍ: ستَعرفيه بعد تجربةِ الغَرَقِ في لُجَجِه. خاصة عندما يسألك عقلُك لِمَ تُحبيه؟ وعندما تسألُكِ عنه شَفتاك، وتبحثين عن أطيافِه في وميضِ عينيك، وفي ثنايا مُفرَداتُك. ساعتها، صَمتُك العارِفُ الوحيد، سيُفسحُ الطريقَ لِصرخةٍ مكتومةٍ تقول لعقلك ولكل من سأل: مساكينٌ أنْتم وأشباه مَجانين. سيبقى سِرَّا بينَ هُدْبِ العيون، وإرتعاشاتِ الشفاه.  سيظل سِراً لا يُتْقِنُ تَدَبُّرَهُ، الا قلبٌ يتسارعُ نبضُه ويَضْطَرِبُ، كلّما حاولتِ التَّظاهُرَ بأنَّكِ لا تُحبّين.

وستدركينَ بأنَّك في الحب مُحَلِّقةٌ، عندما تبحثين قَلِقَةً، عن مُستَقَرٍّ لكِ في مُفرداتِ تضاريسه. وتصمدي في حيرةِ البدايات، وأنت واثقةٌ، بأنَّ كلَّ الطُّرُق لنْ تُؤديَ إلاَّ إليه.

وستعلمين علم اليقين أنّك في الحب عاشقةٌ، عندما تغيبُ تضاريسُه عن مدى بصرك، فتقتربُ شفتاك من أذنه هامِسةٌ: أتُحِبُّني؟!  وبعدها بقليلٍ تبتسمين بدلال. وتَهُزّين الريحَ بقبضة يدك، وأنت تُسائلين الفضاء: كَمْ ؟ فيغشاك نورٌ مُضَمَّخٌ بنسائم نَدِيَّةٌ، تتسلَّلُ معه، أصابع يمينك إلى يسار الصدر، تربّتُ بحنانٍ عليه، ورأسُكِ مُتَّكِئٌ على كتفك ، تدمع مبتسمةٌ بحياءٍ لذيذٍ عيناك.

تنَهدَتْ وهي تَقفُ مُنتصبةُ القامة، كعودِ خَيزرانٍ غضٍ داعبَه موجٌ مِنْ نسيم، ودارَت منْ حوليَ دورتين، وتوقَّفَت في مُواجَهتي مُطأطِأةَ الرأسِ، لِتُخفي فَرحاً طُفوليأ كان يُراقصُ شفتيها، ويغشى كرْمَشاتٍ ناعمةٍ حول عينيها وبين الحاجبين. وقالت بِتَعجُّلٍ نَفذَ صبرُه: حسنا يا شيخي، أعترفُ بأني غارقةٌ في حبٍّ. ولكن، قل لي ارجوك، كيف أبقي هذا الحبَّ أنيقا.

سارَعَتْ لوضع فنجان قهوتي الفارغ  جانبا من يدي، وانا أقف مع قهقهةٍ مُشذَّبةٍ مُهذَّبة، أمْسكتُ بأطرافِ أصابِعِها اليمنى الممتدة بإتجاهي وقلتُ وأنا أحدِّقُ في عينيها الفَرِحَتين القَلِقَتين:

أنيق الحب يا سيدتي، هو ما يبقيك في حالة إشتباك ناعم، بين الصمت القوّال ، وموسيقى القول الصامت. ويبقى كالجدل الساكن في مرمى القلب وشباكه، مُحتدِماً بين التَّوبة ِالمُعاشَةِ، والمَغفِرَةِ المُعاتِبِة،  المُقْبِلَةُ بعطرِ البَسَمات. فأنيق الحب يا سيدتي، ليس سباقا ماراثونيا مع المناكَفَةِ المُمَنِّنَهْ.

وإعلمي أن أجمل الحب وأنبله، كثيرا ما يتجسد في البحث لِمَنْ نُحب ، عن عُذرٍ ومَنْفَذٍ، لا البحثُ عن تقنيات الحصار لممارسته، والتلذُّذ بساديَّةٍ واهمةٍ بِنَصر.  فما وَهْمُ النَّصرِ ذاك، إلاّ نِكاياتٌ تُمارسينَها على الأنا، وعلى الطين الذي بداخلك. إبتسمي إن جاء نادِماً. فالبَسْمَةُ في الحبِّ الأنيقِ نِعْمَةٌ مُريحة، وهي فرضُ عَينٍ لا فرضُ كِفاية، وعَجيبُ سِحرها أنه عنوانٌ كاشفٌ لأناقةِ حُبّ.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى