مرايا “العلا” حين تعكس عظمة الطبيعة وقوة المصالحة* مرح البقاعي

النشرة الدولية –

يبرز دور الولايات المتحدة جلياً في التوطئة لرأب ذات البين الخليجي من خلال الدعوة الخاصة التي وجهتها المملكة العربية السعودية لكبير مستشاري الرئيس الأميركي وصهره جاريد كوشنر لحضور أعمال “قمة العلا” لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، وقد جمعت الأشقاء الخليجيين على تفاوت التمثيل الرسمي لدولهم حول طاولة مستديرة وبحضور لافت لقطبي المصالحة الخليجية وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد.

 

جلس كوشنر في الصف الثاني حول طاولة الصلح وصار شاهداً على توقيع بيان القمة الختامي في “قاعة المرايا” من مدينة العلا التاريخية؛ القاعة التي دخلت كتاب غينيس للأرقام القياسية لكونها المبنى الأعظم في العالم نسبةً إلى الواجهات الزجاجية التي تشكل هيكله والتي تعكس الجمال المبهر لجبال إقليم الهجرة الذي يندرج ضمن قائمة منظمة يونسكو للتراث العالمي.

 

جاء انعقاد قمة دول مجلس التعاون الخليجي رقم 41 قبل أيام معدودة من انتقال السلطة في البيت الأبيض من الرئيس دونالد ترامب والحزب الجمهوري المقرّب من المملكة إلى جو بايدن والحزب الديمقراطي بكل إرثه الثقيل وعلاقاته المتوترة مع دول الخليج، كما بدت جلية في عهد أوباما حين كان بايدن نائباً له لمدة ثماني سنوات، وكان يمدّ السجاد الأحمر لتيسير عودة إيران إلى المجتمع الدولي وإنهاء الحظر السياسي والاقتصادي عليها إثر توقيع اتفاق فيينا النووي في العام 2015، وهو الاتفاق الذي انسحب منه الرئيس ترامب في العام 2018.

 

كانت إدارة ترامب قد حشدت جهداً دبلوماسياً لافتاً قاده المستشار كوشنر لدعم طي صفحة الخلافات بين الدول الخليجية؛ قطر من جهة والمملكة العربية السعودية مدعّمة بكل من الإمارات والبحرين ومصر من جهة ثانية. في حين عكست مرايا العلا القيمة الزمنية العالية للبيان الختامي الذي تلاه وليّ العهد السعودي في الجلسة الأخيرة لأعمال القمة والذي أرسى حجر الأساس لصوغ ملامح علاقة جديدة ومتجدّدة بين أركان البيت الخليجي الواحد.

 

من نافلة القول أن التوقيت الذي يسبق تسلّم إدارة بايدن زمام الحكم في واشنطن، ناهيك عن قناعة تشكّلت لدى الأشقاء في بيت الأسرة الخليجية وبدعم من ركن أساسي من أركانه وهي دولة الكويت وأميرها الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح، إنما كان توقيتاً مثالياً لتكثّف فيه إدارة ترامب من مساعيها الدبلوماسية لتمكين هذه المصالحة وتهيئة المناخ المناسب لانتعاشها.

 

هكذا يكون ترامب قد قطع الطريق على الرئيس القادم بايدن أمام أية محاولة ممكنة لإعادة إيران إلى الواجهة السياسية العالمية من خلال إحياء اتفاق فيينا، أو إعادة تأهيلها إقليمياً من خلال التغاضي عن أجندتها التوسعية الهادفة لبسط نفوذها في محيط الجوار الخليجي بخاصة، والعربي بصورة عامة.

 

مباشرة إثر اختتام أعمال قمة المصالحة، أصدرت وزارة الخارجية الأميركية بياناً رسمياً على لسان مايك بومبيو عبّر من خلاله عن تفاؤله بقوة “الاختراق السياسي” الذي تجسد في إعلان المصالحة الخليجية، مشدداً على أهمية “مواصلة الدول الخليجية جهود المصالحة لحل خلافاتها واستعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة لتشمل كافة الأطراف في المنطقة ولتتّحد في مواجهة التهديدات المشتركة”.

 

الحراك الدبلوماسي الأميركي يجري وعين واشنطن حمراء على إيران، فالولايات المتحدة التي رفعت من حدّة العقوبات على طهران إلى درجة تصفير صادراتها النفطية تجد في وحدة البيت الخليجي مصدر قوة لها

 

بينما ثمّن وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، الإنجاز الذي تمّ في قمة العلا، وأفاد في تغريدة له على حسابه الخاص بالقول “نحن أمام قمة تاريخية بامتياز في العلا نعيد من خلالها اللحمة الخليجية، ونحرص عبرها أن يكون أمن واستقرار وازدهار دولنا وشعوبنا هو الأولوية. أمامنا المزيد من العمل ونحن في الاتجاه الصحيح”.

 

ومن نافلة القول أيضاً أن الزخم الشديد الذي وضعه المستشار كوشنر ومن خلفه الرئيس ترامب لدعم هذه المصالحة إنما جرى رغبة من واشنطن في إحكام الحصار على نظام الولي الفقيه في طهران من خلال إخراجه من أي مسرب يستطيع التسلل منه لشقّ الصف بين الأشقاء الخليجيين، تماماً كما سعى مع دولة قطر خلال فترة المقاطعة التي استمرت ثلاثة أعوام استغلت فيها طهران حاجات أساسية للدوحة من أجل التغلغل عبر أسواقها في محاولة لإيجاد موطئ قدم لها على أرض الخليج، يساعدها في المستقبل على تمرير أجنداتها الطامحة والطامعة بالثروات الوطنية لدول مجلس التعاون المالية والدينية والثقافية؛ وكذا بالموقع القيادي والمؤثر الذي تمثّله في توجيه دفة سياسات العالم العربي الخارجية، وفي مقدمتها العلاقات العربية مع الولايات المتحدة على اختلاف إداراتها المتعاقبة من جمهوريين أو ديمقراطيين.

 

تجدر الإشارة إلى أن الحراك الدبلوماسي الأميركي إنما يجري وعين واشنطن حمراء على إيران. فالولايات المتحدة التي دخلت بمواجهات سياسية كبرى مع حاكمية الملالي في طهران، والتي رفعت من حدّة العقوبات عليها إلى درجة “تصفير” صادراتها النفطية، تجد في وحدة البيت الخليجي مصدر قوة لها وتمكينا لبرنامج العقوبات المتصاعدة التي وضعتها على إيران وجعلت من الصعوبة بمكان لإدارة بايدن القادمة التخلّص منها أو التخفيف من عقباتها.

 

ولا نعلم أية مفاجآت سيخرج بها الرئيس ترامب من فترته الرئاسية مغامراً بمواجهات مباشرة مع طهران قبيل أيام معدودة من مغادرته البيت الأبيض، معتمداً من جديد على عودة الصف الواحد والقلب الواحد والإرادة الواحدة إلى البيت الخليجي لدعم أي تحرك عسكري ممكن، خاصة بعد أن أعلنت طهران في ذكرى مقتل قاسم سليماني، بفعل غارة أميركية شُنّت عليه عن بعد، عن رفع معدل تخصيب اليورانيوم إلى مستوى سيمكّنها خلال أشهر معدودة من الامتلاك الكامل للسلاح النووي المحظور عنها بقرار أممي.

 

المصالحة الخليجية من وجهة نظر إدارة ترامب تشكّل الجبهة الرصينة والراسخة لمناهضة كل أشكال التوغّل والتغوّل الإيراني في منطقة الخليج؛ فقد أعلنت قمة العلا في يومها الأول عن إعادة فتح الأجواء السعودية أمام الطيران القطري الذي كان يدفع لطهران رسوماً لاستخدام مجالها الجوي، خلال فترة المقاطعة، قاربت المئة مليون دولار سنوياً استغلّتها في تمويل برامجها العسكرية وميليشياتها الإرهابية العابرة للحدود؛ هذا ناهيك عن تسلل إيران إلى القطاع المصرفي القطري، وقيام عدد من البنوك الإيرانية من القطاع الخاص باستغلال الأزمة لإيجاد علاقات مصرفية بينها وبين بنك قطر الوطني أكبر بنوك الدوحة، وكذلك محاولة شراء ولاء السوق القطري من خلال توفير الغذاء والدواء ومواد البناء التي انقطعت.

 

فصل المقال يكمن في الاستحقاق الذي سيرافق دخول الديمقراطيين البيت الأبيض بتاريخ 20 يناير الجاري، مقابل معادلة مستجّدة لم يألفها الرئيس المنتخب بايدن خلال شغله لمنصبه السابق نائباً للرئيس أوباما.

 

ففي طرف المعادلة الأول تقف الكتلة الخليجية كالبنيان المرصوص، وبموقف موّحد وقدرات عالية الجهوزية لدولها مجتمعة، وذلك في مواجهة التحدّيات الإقليمية التي رأس حربتها نظام الملالي المتشدّد في الجوار؛ في حين تبدو طهران في طرف المعادلة الآخر، شبه عارية اقتصادياً، ومعزولة تماماً سياسياً، تحاول أن تستر عورتها بورقة توت أخيرة قوامها مناورات فاشلة، وتحايل على القانون والاتفاقات الملزِمة، بهدف الوصول إلى غايات تصعيدية خبيثة نجحت إدارة ترامب الجمهورية في جعلها أثراً بعد عين.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button