“ابتسم.. إنها تمطر” والضحك على الأحزان… بلقيس خليفة تعود بنا إلى العلاقة بين الطبيعة والإنسان، وهي علاقة قديمة جدا تعود إلى وجود الإنسان على الأرض* فاطمة بن محمود
النشرة الدولية –
عن دار المنتدى بتونس صدرت في طبعة أنيقة وبحجم متوسط المجموعة القصصية الثانية للقاصة التونسية الشابة بلقيس خليفة بعنوان “ابتسم.. إنها تمطر” جمعت فيها 12 قصة امتدت على 150 صفحة.
“ابتسم.. إنها تمطر” من خلال هذا العنوان نلاحظ أن القاصة تعود بنا إلى العلاقة بين الطبيعة والإنسان، وهي علاقة قديمة جدا تعود إلى وجود الإنسان على الأرض، وتحتكم إلى انفعالات إنسانية مختلفة من خوف وتهديد وفزع إلى بهجة وأمن وحياة. القاصة ترى في المطر مبررا للفرح والبهجة، وهذا ما يشير إلى حالة انتكاسة وحزن لكن عندما نطلع على قصص الكتاب نفهم أكثر طبيعة اختيار هذا العنوان، فالخيط الناظم لكل قصص الكتاب هو السخرية السوداء، وهذا يعني أن ثمة حالة إحباط ويأس، لذلك تتنزل دعوة القاصة للابتسام من هذه القصص التي تهطل مثل مطر في أرض جدباء.
خصوصية المواضيع التي نبشت فيها القاصة بلقيس خليفة تعود في مجملها إلى تونس بعد “الثورة” فقد التقطت القاصة العديد من الظواهر الاجتماعية والسياسية وعرضتها أمام فتحدثت عن مظاهر الفساد المنتشر من جشع الطبقة الصاعدة من السياسيين الذين يتاجرون بأحلام الفقراء إلى المتاجرة بالدين من أجل ابتزاز الناس في حريتهم وحياتهم. كما اهتمت بنقد ظواهر اجتماعية مختلفة مثل النفاق الاجتماعي والتلاعب بالقيم الأخلاقية والكبت الجنسي. لعلها كانت مناسبة لكشف ما اختفى من جبل الثلج في تونس، فكانت مناسبة لرصد الجهل الذي يسكن المعتقدات الدينية والمعارف الإجتماعية.
وفي كل ذلك تكشف بلقيس خليفة في قصص كتابها عن شخصية التونسي التي تختلف كليا عن تلك التي تسوّق في الاستثمار السياحي أو في خطب السياسي.
ليس دور المبدع أن يربّت على كتف المجتمع بل أن يهزه ويجعله يرى عيوبه حتى يتجاوزها. وكما تأتي الأمطار فتتطهر شوارع المدينة تأتي قصص الكتاب لتقوم بعملية تطهير للمجتمع. في هذا الإطار تتنزل مقولة أرسطو من أن الأدب يأتي لتطهير النفس من شهواتها. وتبدو قصص بلقيس خليفة عملية تطهير للنفوس للمجتمع التونسي، لذلك كان نقدها شديدا لكل ظواهر الفساد والفوضى في المجتمع والفرد.
وظيفة الأدب الحقيقية هي ان تعرّي كل ما هو سلبي وتنقد كل ماهو فساد وفوضى حتى تعلّي من قيم الخير والجمال.
التقنية القصصية
الكتابة الساخرة في الأدب كما في الفلسفة ظهرت للسخرية من جهل العامة، وبرزت في الأدب كأسلوب فني في باطنه نقد شديد ولاذع، وهو بذلك رديف الأدب الجاد والملتزم، وقد اشتهر العديد من مشاهير العالم في السخرية النقدية الهادفة مثل سرفانتيس وفولتير، وبرزت بشدة مع برنارد شو، إلا أنه لم يخلُ منها الأدب العربي منذ الهمذاني إلى الجاحظ في كتابه “البخلاء” حتى الوصول إلى اميل حبيبي والتونسي علي الدوعاجي.
لعل أبرز ما يميز الكاتبة بلقيس خليفة في قصصها أنها اختارت أحد أصعب الأساليب في الكتابة، وهو أسلوب السخرية التي تكاد لا تخلو صفحة من صفحات مجموعتها من طرفة أو دعابة. وقد اختارت بلقيس خليفة أن تنوّع في أشكال السخرية من ذلك أنها تستعمل ألفاظا فتقلب معانيها كما تستعمل لفظا عكس ما يقصده المتكلم وتختار أحيانا رسما كاريكاتوريا للشخصيات أو تصويرا مضحكا لحركاتها وغير ذلك، كما توظف لذلك علامات التعجّب والتنقيظ والاستفهام وتضمين الأمثال الشعبية واستخدام الجمل الإعتراضية.
في الظاهر تنجح استعمالات السخرية في إضحاك القارئ، وهي في الحقيقة تقصد نقد الظواهر المختلفة التي تبدو غير سوية في المجتمع أو في أفراده، ولأن القدرة على الإضحاك موهبة وفن في حد ذاته ليس في متناول أي كاتب ويحتاج مهارة إضافية تتمثل في سرعة البديهة وحدة الذكاء والقدرة على التدقيق في التفاصيل الحركية والألفاظ اللغوية المهارة في توظيف التشبيه والاستعارة والكناية والتضاد والترميز والإيهام والإيحاء وكل ذلك لا يمكن أن يتقنه الكاتب إلا إذا كانت السخرية تسكن طبعه، ولعل هذا ما انتبهت إليه في اللقاء الذي كان لي مع القاصة بلقيس خليفة التي بدت لي سريعة البديهة في ردودها وطريفة في أحاديثها، ولعل هذا ما يجعل من الكتابة تعكس جانبا من شخصيتها، إضافة إلى أنه يمكنها من أن تتمثّل ما تكتبه وتعيش مواضيعها وتسكن شخوصها ولذلك تبدو الكتابة عند بلقيس خليفة نوعا من التشظي والمعاناة الحقيقية.
ولا يخفى على أحد ان الأدب عموما والسخرية تحديدا تحتاج ضرورة إلى مساحة من الحرية حتى تنمو، فالمجتمعات المنغلقة تفرض الصرامة والشدة وتعتبر الضحك يقلل من الهيبة والوقار والسخرية “قلة حياء”، وهي طريقته لسد منفذ كل نقد ممكن وإن ورد في شكل فكاهي، وأن تختار القاصة بلقيس خليفة السخرية في كتابها، فهذا ربما يعبر عما تعيشه البلاد من فوضى تقلص من حضور الرقابة على الأدب، وبالتالي يسمح لها ان تمرّر شحنة هائلة من النقد الشديد لمظاهر اجتماعية وسياسية مختلفة.
لا يخفى أنه ليس كل كاتب بإمكانه النجاح في اعتماد السخرية لان هذه الأخيرة موهبة لدى الكاتب، وقدرة على فهم المزاج العام للمتلقي، فما هو مضحك في هذا المجتمع ليس هو كذلك في مجتمع آخر. ولعل نجاح قصص القاصة بلقيس خليفة أنها تأتي كردّ على حالة التجهّم التي تعيشها الشخصية التونسية التي منيت بخيبة “الربيع التونسي” الذي لم يحقق انتظاراته، بل وعاد بالوبال عليه من خلال ارتفاع البطالة وغلاء المعيشة وانتشار الفساد وظهور أشكال مختلفة من الإرهاب وهيمنة حجة القوة وهو ما نشر حالة من الإحباط والانكسار. لذلك تأتي هذه القصص كمحفّز على الابتسام في وجه الآلام والضحك من الأحزان، ولعل في الوضع التونسي والعربي عموما تجد هذه القصص صدى وتجاوب على اعتبار أن شرّ البلية ما يضحك.
تعتمد القاصة بلقيس خليفة على كتابة المشهدية في قصصها من خلال تصوير سينمائي للحدث والشخوص، فالكتابة السردية هنا تشكل لوحات بصرية في ذهن القارئ، لذلك نجد قلم الكاتبة ينتقل به من خلال لقطات كبيرة ومتوسطة وصغيرة وتعتمد جمل سردية تقترب فيها من وصف دقيق لملامح شخصية في القصة حتى كأنك تراه ثم تنتقل بك من خلال قلمها / الكاميرا إلى زاوية أخرى في المشهد، ولعل هذا يبرز بشكل جلي في كل قصص الكتاب من ذلك قصة “حول علاقة الشاعر بالبوط وعلاقة الرفاق بالوحل” (ص 119).
أهم ما يلفت انتباه القارئ تلك النهايات المخاتلة التي تفاجئ فيها قارئها وتحقق نوعا من الدهشة تطوّح به بعيدا مثل ما حدث في قصة “طيري بيّ” (ص 11) حيث تصوّر مشهدا عاما فيه الشيخ يجلس ويتابع بشهوة جامحة حركات الخادمة ثم في لحظة سردية منفلتة تصور لنا القاصة الشيخ وهو يهجم عليها ليغتصبها، ولكن نكتشف في آخر القصة أن ذلك لم يحدث سوى في ذهنه ولم يفق من خيالاته إلا عندم دلقت عليه الخادمة سطل ماء كانت تقصد به غسل النافذة التي يجلس عندها.
ولعل أطرف ما لفت انتباهي هو تلك المخاتلة الجميلة التي تقوم بها القاصة عندما تراوح بين شخصيتي الساردة داخل النص وخارجه فنجد الشخصية الرئيسية منصهرة داخل الحدث ثم سرعان ما تخرج منه لتدخل في حوار مع الساردة وقد انتشرت هذه الخدعة خاصة في الأعمال الروائية، ولكن القاصة توظفها في قصصها، فتعمد مثلا إلى إدخال شخصيات حقيقية من أصدقائها مثل الناقد عبدالمجيد البحري بدوره الطبيعي كقارئ أول لنصوصها، ونراه تقدمه ليبدي ملاحظاته النقدية فيصبح حضوره كشخصية سردية ضروريا في بناء القصة.
قبل الخاتمة
لعل ما يحسب للقاصة بلقيس خليفة ويجعلها صوتا قصصيا مميزا في المشهد الأدبي التونسي، ويعد بمستقبل لها أنها تختار الانشغال بما هو محلي، وفضّلت الاهتمام بكل ما هو تونسي فجاءت قصصها تضجّ بروائح تونسية، وانتصرت فيها لقدرة التونسي على السخرية من نفسه ومن المجتمع من مظاهر دينية وأخرى سياسية، واعتمدت في ذلك اللهجة التونسية وتقترحها على القارئ العربي في تحد واضح فتجبره على التفاعل مع قصصها.
كما اختارت القاصة تقنيات سردية عديدة، وإن بدت لي أحيانا متسرعة في التخلص من القصة التي بصددها، فتقفز على بعض اللوحات السردية التي تبدو مهمة تحتاج إلى إشتغال أعمق.
“ابتسم إنها تمطر” كتاب قصصي ينجح في تقديم القاصة بلقيس خليفة كاسم بإمكانه أن يضيف في المشهد القصصي التونسي والعربي، ولعل ما أخشاه أن تكون الكاتبة في هذا الإصدار الثاني قد استنفذت كل الخدع السردية، وقالت كل شيء ولعل هذا ما يفرض عليها تحديات أدبية تمكنها من النجاح في مسيرتها الإبداعية.