الديمقراطية لم تقوَ بحظر حسابات ترمب على المنصات الاجتماعية* جيمس بول

النشرة الدولية –

إلى من لا يزال متمسكاً بعادة الإنصات إلى المشرعين الجمهوريين، حملت الأيام الأخيرة واقعة تمثل ذروة جديدة من أشكال السلطة والرقابة غير المحدودة التي تتمتع بها شركات التكنولوجيا الكبرى. إذ تحركت منصات “فيسبوك” و”يوتيوب” و”تويتر” أخيراً وحظرت نشاطات دونالد ترمب والآلاف من أنصاره المتآمرين، في شبكاتها. وتملك الاعتراضات المعبرة عن المخاوف تجاه سلطة الشركات المذكورة، بعض القيمة المستجدة بلا شك، في الأقل بالنسبة للجمهوريين الذين تتمثل أكبر إنجازاتهم بعد أربع سنوات لهم في الرئاسة، بتخفيضات ضريبية ضخمة للشركات وفاحشي الثراء، وشبه انهيار للديمقراطية الأميركية.

في هذا الإطار، تبدو الخطوات التي اتخذتها هذه الشركات مذهلة بالتأكيد. واستطراداً، كأنه لم يكن كافياً طرد قائد العالم الحر (الرئيس الأميركي المنتهية ولايته) إلى خارج فضاءات شبكات التواصل الاجتماعي الأكبر في العالم، فأُضيف إلى ذلك الطرد حرمان حملة ترمب من وسيلة تلقي التبرعات والتقديمات المالية (عبر الشبكات). وجرى في السياق نفسه تعطيل شبكة التواصل الاجتماعي المحافظة، “بارلر” Parler، تعطيلاً كاملاً، بعدما رفضت شركة “آمازون” الاستمرار في استضافة خدماتها.

في المقابل، بدت تلك التدابير والخطوات المتراكمة متخطية الحدود المعهودة. إذ ربما لا يرقى أمر حظر شخص ما في منصات التواصل الاجتماعي، إلى درجة انتهاك الحقوق الشخصية للأفراد التي ضمنها التعديل الأول في الدستور الأميركي. وعلى نحو مماثل، لا تُعد خسارة عقد عن نشر كتاب مشكلة تمس حرية القول والخطاب. لكن، أن يُحظر المرء في كل مكان، وأن تغلق في وجهه بين ليلة وضحاها جميع منابر الإنترنت، فقد بات ذلك تلقائياً كأنه تهديد لحرية التعبير.

من دون شك، يُظهر الأمر حجم السلطة الهائلة التي تتمتع بها شركات التكنولوجيا الكبرى. وظاهرياً، بدت الأخيرة قادرة على حرمان الرئيس الأميركي من جميع وسائط التواصل الاجتماعي على هذا النحو الدراماتيكي. واستطراداً، طرح عديد من الأشخاص العقلانيين أسئلة علنية تتصل بهذا الأمر. إن ذلك ما أوحى به مشهد الأيام الماضية، للوهلة الأولى.

بيد أن الواقع، وفق ما ظهر في الحقيقة، يُشير إلى نقاط ضعف ورغبات مضمرة تتعلق بشركات التكنولوجيا الكبرى، على الرغم من السطوية التي بدت عليها. إذ قوّض تحركها الآن ضد دونالد ترمب أثناء توليه الرئاسة لأيام قليلة، على نحو كامل فحوى تبريراتها بشأن عدم تحركها على مدى السنوات الأربع الماضية. وطوال تلك السنوات، رددت تلك الشركات أن ما ينشره ويكتبه الرئيس الأميركي يشكل بوضوح موادّ تهم الرأي العام، وبالتالي ينبغي إبقاؤه على المنصات وحفظ [ما يكتبه] كوثائق، حتى لو خرق أحكام النشر الموضوعة وشروطها.

إلا أن التوقيت الذي اختارته الشركات مؤخرا، كل على حدة على ما يبدو، كي تعيد النظر في تبريراتها التي دامت طويلاً، يأتي مدهشاً بمقدار إفصاحه عما يُضمر. إذ لم تفعل تلك الشركات في الواقع سوى انتظار خسارة ترمب سلطته. يضاف إلى هذا، إن سجلها يعد طافحاً بالتجاوزات (إضافة إلى الأرباح الفلكية التي تحققها “فيسبوك” و”غوغل”) بتأثير إعفائها من الأكلاف الاجتماعية عما تتسبب به نشاطاتها وأعمالها من ضرر عام. وثمة إجماع عابر للدول وطرفي الانقسام الحزبي الأميركي على اعتبار أن تلك المنصات (الشركات) لا تبذل جهوداً كافية في استئصال المواد والمنشورات المتطرفة، ولا تفعل ما يكفي كي تكافح سوء استخدام وسائط التواصل، وتتلكأ في معالجة مظاهر الاستقطاب والمعلومات المضللة، وكذلك أنها ربما تحقق أرباحاً بفضل معدلات استخدام الإنترنت التي قد تلامس حدود الإدمان.

استناداً إلى ذلك، يمكن القول إنه لا بد من اتخاذ شكل من أشكال الإجراءات التنظيمية تجاه شركات التكنولوجيا، خصوصاً منصات التواصل الاجتماعي. بيد أن الجهود التي بذلتها شركات الإنترنت العملاقة بهدف تمييع هذا المنحى [الساعي إلى اتخاذ إجراءات تنظيمية]، أو تأجيله، أظهرت حتى الآن نجاحاً باهراً. وكل سنة تمر ويبقى فيها تأجيل اتخاذ تلك الإجراءات المطلوبة مستمراً، تمثل سنة جديدة في جني أرباح تقدر بمليارات الدولارات، من شأن الإجراءات الفاعلة أن تنقصها على الأرجح (ولا تلغيها).

استكمالاً، يعني ذلك أن شركات التكنولوجيا الكبرى باتت بأمس الحاجة إلى إبقاء الكونغرس إلى جانبها، لذا، فإنها طوال فترة سيطرة الجمهوريين على مجلس الشيوخ، ووجود ترمب في البيت الأبيض، استبعدت كل شكل لا يفيدها من أشكال التدابير الفاعلة ضد ترمب، أو ضد الجناح المجنون في الحزب الجمهوري.

واليوم، لم يأت تحرك الشركات الكبرى ضد ترمب إلا حين غدا الثمن السياسي لإبقائه على منصاتها أعلى من الثمن السياسي لطرده منها. ويرجح أنه من غير الاعتباطي أن يكون أمر تحرك الشركات أتى إثر فوز الديمقراطيين بانتخابات ولاية جورجيا، وليس قبله. ويعني ذلك إنه جاء بعد أن باتوا يسيطرون على مجلس الشيوخ.

في الإطار ذاته، ثمة علامة أخرى من علامات ضعف شركات التكنولوجيا (أو على الأقل جبنها) تمثلت في تصرفها على نحو متناغم، فيما حاولت في المقابل، على نحو محموم، الادعاء بأنها لم تكن تنسق في ما بينها، حتى لو بطريقة غير مباشرة. إذ حظرت شركتا “فيسبوك” و”يوتيوب” ترمب نهائياً قبل يوم واحد من حذو “تويتر” حذوهما، ما جعل الأخيرة تبدو على شيء من الاختلاف وتغرد بمفردها. ثم إن “تويتر” سارعت إلى استخدام ذريعة واهية كي تحظر حساب ترمب، تمثلت في تغريدة للأخير أعلن فيها أنه لن يحضر حفل تنصيب بايدن، التي هي أكثر اعتدالاً بأشواط من تغريداته العادية المعهودة. ومن غير الواضح فعلاً من كان ينبغي على تلك الذريعة أن تُقنع.

لو كانت شركات التكنولوجيا قوية فعلاً، وجازمة في قراراتها بهذا المنحى، لكانت ستبدو سعيدة باتخاذ قرارت مختلفة في أوقات مغايرة. وبدل أن تتولى فعل ذلك الأمر الأخير، فإنها اليوم تنسخ عادات حيوانات القطعان إذ يهددها حيوان مفترس. فتتكتل معاً، وتحاول كل واحدة منها يائسة أن لا تكون ذلك الحيوان الضعيف الشريد، الذي سيفترسه الوحش.

استكمالاً لتلك الصورة، سيشكل اعتبار تحرك شركات التكنولوجيا اليوم متأخراً عن أوانه بعض الشيء، وسبباً لخسارتها بعض الأرباح، التصريح الأكثر وهناً واستخفافاً بموضوعه في هذا القرن. بيد أن الأمر يعد نتيجة الفشل الذريع للمشرعين في فرض اتخاذ قرارات مماثلة منذ البداية. إذ إن قرار مواجهة ترمب، بما يقترفه من انتهكات في هذا المجال، تُرك في يد شركات التكنولوجيا التي حققت أرباحاً كبيرة وجنت فائدة ضخمة من وجوده كمستخدم لمنصاتها. وبالتالي، اعتمد رصيدها السياسي (ومن ثم أرباحها) على عدم إزعاجه كثيراً. بالطبع، ما كان ينبغي ترك مسؤولية اتخاذ تلك القرارات، بيد هذه الشركات. إذ ظلت حرة في تصرفاتها بفضل سنوات من تلكؤ الحكومة في فعل أي شيء

في السياق نفسه، من المستطاع الإشارة إلى إنه على الرغم من اعتراضات الجمهوريين اللامتناهية على دفق البرامج الإخبارية الهائل على شبكة الكابلات [التي تنقل البث التلفزيوني]، لم تتبنّ شركات التكنولوجيا أجندات وبرامج معادية للجمهوريين. إذ إن كل ما تريده يتمثل في تحقيق الأرباح بسلام. لكن، إزاء فشل الحكومات واقعياً في اتخاذ قرارات تتعلق بما ينبغي فعله في تنظيم مواد البث والنشر على الإنترنت، وتقليص الأضرار المتأتية من تلك الشبكة العملاقة، من دون تهديد حرية التعبير، فقد قمنا جميعاً بتجيير كل المشكلات إلى مجموعة من الرؤساء التنفيذيين الذين يقودون هذه الشركات، ولا يتحلّون بأي رغبة أو حافز يدفعهم إلى حلها.

في الظاهر، تبدو شركات التكنولوجيا الكبرى قوية للوهلة الأولى، وبفضل سلطتها غير المقيدة على نظام المعلومات في العالم، المُستخدم من قبل مليارات الأشخاص، تأتمر بإمرة مؤسسين غير خاضعين للمساءلة.

في المقابل، تشير الحقيقة إلى أن أولئك الرجال يختبئون خلف فريق إثر فريق من المحامين وجماعات الضغط، الذين يحاولون تلافي كل ما يُلحق الضرر بمصالح شركاتهم وحاجاتها الأولية.

كخلاصة، إن ما ينبغي فعله يتجسد في إحكام قبضتنا على شركات التكنولوجيا الكبرى. علينا السعي إلى أن تكون الإنترنت مفيدة لنا جميعاً. لكن ينبغي أن لا نعتبر ما شهدناه الأسبوع المنصرم واقعة تمثل إبراز عضلاتها. إذ لم تكن تفعل سوى الاحتماء بوضعية دفاعية.

 

(جايمس بول مؤلف كتاب “النظام، من يمتلك الإنترنت التي تمتلكنا” The System: Who Owns the Internet, and How it Owns Us، وهو محرر الشؤون الدولية في “مكتب الصحافة الاستقصائية” Bureau of Investigative Journalism

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button