هزيمة روسيا
بقلم: اكرم كمال سريوي
النشرة الدولية –
المغرّد –
منذ عام تقريباً، بدأت الحرب الروسية على أوكرانيا، وتوغلت قواتها سريعاً حتى وصلت إلى مشارف العاصمة كييف، وكتبت يومها مقالاً قلت فيه: “أنه لا يمكن لروسيا أن تنتصر في هذه الحرب”
واليوم يظهر جلياً أن روسيا غير قادرة على تحقيق النصر، فلقد صمدت القوات الأوكرانية، ثم انتقلت من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم، وأجبرت القوات الروسية على الانسحاب، أولاً من قرب كييف، ثم من تشرنهايف، وازيوم، وخاركيف، وأخيراً خيرسون.
من يتابع تقارير وزارة الدفاع الروسية، يلاحظ أنها بغالبيتها باتت تقتصر على: صد هجوم للقوات الأوكرانية هنا، وآخر هناك، وتدمير مدفع أو دبابة، أو إسقاط طائرة أو مروحية، وهي تكافح منذ وقت طويل للتقدم بضعة أمتار، أو للسيطرة على شارع في مدينة باخموت.
قبل الحرب، كان العالم ينظر إلى روسيا كقوة عسكرية هائلة ومرعبة، لكن اليوم من الواضح أن تلك التقديرات كان مبالغ بها كثيراً، فها هي القوات الروسية تتلقى الضربة تلو الأخرى، بدءاً بخسارة مئات العربات والدبابات المُدَمّرة، وإلى نجاح القوات الأوكرانية في ضرب وإغراق فخر البحرية الروسية، الطراد “موسكفا”، وإلى تفجير جسر كيرتش، واستهداف المطارات العسكرية في القرم، وصولاً إلى قصف معسكر التدريب في جنوب خيرسون.
قد يقول البعض أن روسيا ضمت مناطق أوكرانية واسعة في الشرق، وبالأمس سيطرت على بلدة سوليدار وهذا انتصار، لكن في حقيقة الأمر، فهي لم تتمكن منذ بداية المعارك وحتى اليوم، من اختراق الدفاعات الاوكرانية في الدونباس، وتعجز عن السيطرة على كامل أراضي هذه المقاطعات.
أمّا الكارثة الحقيقية، فهي أن روسيا خسرت، و لوقت طويل، صداقة ومحبة الشعب الأوكراني، الذي كان شعباً شقيقاً للشعب الروسي، على مدى سنوات طويلة.
بالنسبة لي كأجنبي، أمضيت عدة سنوات هناك، في زمن الاتحاد السوفياتي، كان يصعب عليّ التمييز بين الروسي والأوكراني، ويؤسفني اليوم حقاً أن أشاهد هذا الصراع الدامي بينهما، مهما كانت الأسباب وجيهة، بالنسبة لأي فريق منهما، فهي من وجهة نظري لا تستحق التضحية بكل هؤلاء الجنود والمواطنين، فهذه المآسي والندوب في العلاقات بينهما، التي سببتها الحرب، سيصعب نسيانها ومحوها من الذاكرة لأمد طويل.
تملك روسيا ترسانة نووية ضخمة، وأسلحة متطورة وحديثة، و يستحيل هزمها بالمفهوم التقليدي للكلمة، وهذا أمر تُدركه جيداً أمريكا ودول حلف الناتو، الساعية لتحجيم روسيا وإضعافها بأي ثمن.
لكن الهزيمة لها عدة وجوه وأشكال ومفاهيم. فبريطانيا العظمى، انهزمت أمام غاندي المسالم وخرجت من الهند، وجيش الولايات المتحدة الأمريكية المدجج بكل أنواع الأسلحة، خسر الحرب، أمام إرادة مقاتلين حُفاة في فيتنام.
فالنصر في الحرب لا يُقاس في ميدان القتال فقط، وبربح معركة هنا أو هناك، بل يُقاس بمعادلة أساسية، تُقارن بين ما تم تحقيقه من ربح، وما تم تكبّده من خسائر، فعندما تفوق الخسائر ما تحقق من أرباح لدولة ما، فهذا يعني أن هذه الدولة تكبّدت الهزيمة في الحرب.
نعم لقد خسرت روسيا في هذه الحرب، فهي فقدت هيبتها العسكرية، ولم تربح الشعب الأوكراني ولا أوكرانيا، إضافة إلى الخسائر الاقتصادية، وتصدّع علاقات الصداقة مع عدة دول، خاصة في أوروبا.
عندما أبلغوا فلاديمير لينين، أن شقيقه قُتل في محاولة اغتياله للقيصر، أجاب: “نحن سنسلك طريقاً آخر” فقام لينين بإقناع الشعب، بضرورة التصدي لظلم القيصر، ونجح في كسب تأييد الرأي العام، وبنى الاتحاد السوفياتي.
ماذا لو سلك فلاديمير بوتين طريقاً آخر، غير الحرب، في كسب ود الشعب الأوكراني، وجلبه إلى جانب روسيا؟؟؟ وماذا لو أنفقت روسا نصف ما خسرته في هذه الحرب، من مليارات الدولارات، في مساعدة الشعب الأوكراني، وإقامة مشارع تنموية ؟؟؟
لطالما تساءلت أنا عن أسباب هذه الكراهية للروس، في دول الجوار الروسي، في البلطيق، وبولندا، وجورجيا، وأوكرانيا، وغيرها من الدول الأوروبية، لكن هل سيسأل الروس أنفسهم هذا السؤال يوماً؟؟؟
لا يمكن تحميل المسؤولية في هذا الواقع المشحون بالكراهية والعداء، إلى الروس وحدهم طبعاً، لكن لا يمكن إعفاءهم من المسؤولية أيضاً.
في عام 2002 نشر معهد غالوب الأمريكي، استطلاعاً للرأي، أُجري في عدة دول، حول النظرة إلى أمريكا، حيث رأى أغلبية الأشخاص، أن الولايات المتحدة الأمريكية دولة متعجرفة ظالمة، وأطلق بعد ذلك عدد من الباحثين والسياسيين الأمركيين، مصطلح: “لماذا يكرهوننا”، ليأتي الجواب، على لسان جون واتربوري: أن السبب في الكراهية لأمريكا، ليس في نظرة هذه الشعوب إلى الشعب الأمريكي، ولا لأن أمريكا تعتمد مبادئ الديمقراطية وشعار الحرية، بل السبب يكمن في السياسة الأمريكية، التي تعتمد؛ الهيمنة، والاستغلال، وظلم الشعوب، والمعايير المزدوجة، في العالم.
ربما حان الوقت ليسأل الروس أنفسهم أيضاً، لماذا هذه الروسفوبيا في الغرب؟ ولماذا هذه الكراهية المتنامية ضد الروس؟؟ فعندما يكرهنا الآخرون يجدر بنا البحث عن السبب عندنا وفي سلوكنا أولاً، قبل إلقاء اللوم على الآخرين.
نعم ولو سيطرت روسيا على بعض الأراضي الأوكرانية، فهذا لا يعني أنها انتصرت، بل على العكس فهي انهزمت، لأنها خسرت أكثر مما ربحت، فهي خسرت شعباً جاراً شقيقاً، دفع جراء هذه الحرب آلاف الضحايا، ونهراً من الدماء والآلام، سيصعب نسيانه لسنوات طوال.
ليس وحدها روسيا من تكبّد الخسائر والهزيمة، ففي هذه الحرب لا يوجد رابح، أو منتصر، بل الكل مهزوم والكل خاسر، وسنحدثكم في مقالات لاحقة، عن خسائر وهزيمة، كل المشاركين والداعمين لهذه الحرب.
فهناك أثمان باهضة تدفعها الشعوب، بسبب صراع النفوذ والسيطرة، المُستعر، بين الأقوياء المغامرين، المهجوسين بنزعة التسلط، والأنا، والتحكّم بمصير دُول وشعوب هذا العالم.