لبنان: دولة تخرّب اقتصادها بضرب القطاع الصناعي: الجهل والتواطؤ!
النشرة دولية –
المدن – عزة الحاج حسن –
لا يعكس تعاطي الدولة في لبنان مع القطاعات الإنتاجية، خصوصاً الصناعة، سوى مزيد من الفوضى وغياب الرؤى الاقتصادية والاستراتيجية التطويرية. لا، بل أكثر من ذلك. تعكس بعض ممارسات السلطة السياسية التسلطية تجاه القطاع الصناعي، والتي لا تخلو من الكيدية والجهل في بعض جوانبها، تعكس تواطؤاً علنياً ضد القطاع الصناعي، وتجاهلاً لحاجة الاقتصاد الوطني الماسّة للإنتاج الصناعي، إن للإستهلاك المحلي أو للتصدير إلى الخارج وإيراد أموال طازجة في زمن شح الدولار.
تحارب الدولة القطاع الصناعي على مر التاريخ. لكن بعيداً عن ممارساتها التدميرية، وتغليب سطوة القطاعات التجارية والمصرفية على الاقتصاد اللبناني، لا بد من تسليط الضوء على ممارسات الدولة حالياً بحق القطاع الصناعي، في ظل أزمة كانت لتشكّل عاملاً تطويرياً توسعياً للصناعة الوطنية، فيما لو وقعت في أي بلد آخر.
سلطة متواطئة
وآخر إخفاقات السلطة السياسية تتجلّى في قرار الإقفال العام واستثناءاته، إذ استُثنيت قطاعات حيوية من الإقفال كالأفران والمستشفيات والمطار ومصانع الغذاء وغيرها في حين فُرض الإقفال على مصانع وقطاعات مكمّلة لها، كمصانع النايلون والورق والتغليف والطباعة والعبوات وغيرها، ما يعكس عشوائية اتخاذ القرارات وعدم مقاربتها بطريقة علمية.
حتى أن إحدى المستشفيات طلبت أمس شراء كمية من ورق الفواتير، لم يتمكن المصنع من تلبيتها بسبب الإقفال. كذلك الأمر بالنسبة إلى مرفأ بيروت الذي عجز عن تأمين ورق فواتير ومستندات ورقية. حتى الأفران تستلزم تأمين النايلون من المصانع التي بدورها مقفلة.
قرار الإقفال غير المنطقي لم تتراجع عنه السلطات السياسية حتى اللحظة. ولم تفسح المجال للصناعيين لشرح وجهة نظرهم، حتى أن جمعية الصناعيين، وفق ما تفيد معلومات لـ”المدن”، تترقب موعد لقاء مع رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ووزير الداخلية، لم يتم تحديد أي منها حتى اللحظة. أما السبب، فيقف وراءه كارتيل التجار والفنادق ومعهم قطاعات اقتصادية شملها الإقفال، فكارتيل التجار تحديداً اعتاد على تحقيق المكاسب من خلال ممارسة الضغوط على السلطة السياسية.
مخاوف من ضرب الصناعة
عدم استثناء غالبية المصانع من الإقفال التام من شأنه إلحاق الكثير من الخسائر بالقطاع، على عدة مستويات، يقول نائب رئيس جمعية الصناعيين زياد بكداش، في حديثه إلى “المدن”. فهناك مصانع على سبيل المثال كمصانع الزجاج لا يمكن إطفاؤها، لأنه مكلف جداً لجهة الوقت والمال. أضف إلى أن الإقفال يشكّل خطراً على العقود الموقعة للمصانع مع الخارج، والتي تتضمن بنوداً جزائية، “فذلك يدفع بالزبائن إلى تغيير وجهتهم عن الصناعة اللبنانية والتعامل مع أسواق أخرى خارجية”. وإذ يستغرب بكداش سلوك السلطة السياسية في لبنان مسار مخالف لكافة دول العالم، لجهة استثناء القطاع الصناعي بكامله من الإغلاق، يقول: يبقى الخوف من ضرب القطاع الصناعي على غرار ما حصل مع القطاع السياحي، الذي انهار بسبب السياسات العشوائية.
قطاعات “شقيقة” تحارب الصناعيين
وتكمن الأزمة الأكثر خطورة على القطاع الصناعي في التصويب عليه من قبل قطاعات أخرى في كواليس مصرف لبنان، بتهمة استفادة الصناعيين من أموال الدعم وإيداع أموال التصدير في الخارج، ما استدعى من وزير الصناعة في حكومة تصريف الأعمال، عماد حب الله، مؤخراً إلى دعوة الصناعيين لإعادة أموالهم والأرصدة الناتجة عن عمليات البيع في الأسواق الخارجية الى لبنان.
يسخر المدير العام لوزارة الصناعة داني جدعون من تلك الاتهامات للصناعيين، ويقول في حديثه إلى “المدن”، فلنسلم جدلاً أن بعض الصناعيين أبقوا على أموال لهم في الخارج فما هو حجم تلك الأموال، إذا كان كل المبلغ المالي الذي تم تحريره لاستيراد المواد الأولية لا يتعدى 17 مليون دولار، كما أن تلك المواد المصنعة تساوي أضعاف هذا المبلغ. والصناعي مُلزم بإعادة أمواله إلى لبنان لتأمين استمرارية إنتاجه.
تكمن المشكلة في أن الدولة تساوم الصناعيين على عملية الدعم، بهدف إعادة أموال التصدير إلى البلد، في حين أن ما يسمونه بالدعم ما هو إلا جزء من أموال الصناعيين أنفسهم المودعة بالمصارف والمحجور عليها، والتي لا تشكل أكثر من 10 في المئة من الأموال الطازجة التي تدخلها الصناعة إلى البلد.
استهداف القطاع الصناعي
الاتهامات التي تُساق بحق الصناعيين غير دقيقة، يوضح بكداش، خصوصاً أن ما يُسمى بـ”دعم” الصناعيين ما هو إلا استخدام لأموالهم المحجور عليها. فالصناعيون يعملون بعدة آليات، إحداها من خلال المنصة التي استُحدثت في شهر آذار 2020، ووُعد الصناعيون بتحرير مبلغ بقيمة 100 مليون دولار أميركي لتمويل استيراد المواد الأوّلية. لكن لم يُحرر منها سوى أقل من 17 مليون دولار خلال 4 أشهر، علماً أن حجم التصدير خلال الأشهر الأربعة بلغ 800 مليون دولار.
وإذ يوضح بكداش آلية عمل الصناعيين بأن جزءاً منها يقوم على “الفريش ماني” من أموال الصناعيين، مذكّراً بأن أي منتج تدخل فيه مواد أولية مستوردة بأكثر من نسبة 10 في المئة يُمنع على الصناعي تصديره إلى الخارج، كما أن “آلية شراء المواد الأولية عن طريق مصرف لبنان بدولار مدعوم وفق سعر صرف 3900 ليرة، تمنع منعاً باتاً على الصناعي أن يعيد تصدير البضاعة إلا في حال موافقة وزارة الإقتصاد”.
والمُضحك المُبكي بالأمر أن الصناعي عندما يتيح له المصرف تحرير جزء من أمواله المودعة، يُلزم بالتوقيع على كتاب يؤكد إعادة الأموال فريش بعد إتمام عملية التصدير. أما في حال خرق بعض الصناعيين -فيما لو حدث ذلك فعلاً- فمرد ذلك إلى تقصير مصرف لبنان وأجهزته الرقابية عن مراقبة العمليات.
تراجع الصادرات
عوامل وعراقيل عديدة وقفت في وجع الصادرات الصناعية هذا العام، أبرزها مرتبط بالمواد الأولية، يقول جدعون، إلى جانب عقبات أخرى مرتبطة بالإستيراد وأزمة حجز الودائع وغيرها.. وكل ما تم تحريره من أموال لاستيراد المواد الاولية، أي الـ17 مليون دولار، تشكّل 4 في المئة فقط من المبلغ الموعود، أي 100 مليون دولار. علماً أن حاجة القطاع الصناعي لاستيراد المواد الأولية وفق معدلات الأعوام 2017 و2018 و2019 يبلغ نحو 2.5 مليار دولار، بصرف النظر عن المواد الأولية المستوردة للتجار بهدف بيعها للصناعيين.
ويكشف جدعون عن تراجع الإنتاج الصناعي للأسباب المذكورة، بنسبة لا تقل عن 20 في المئة حتى شهر آب 2020، متوقعاً أن يبلغ التراجع نهاية العام 2020 (إلى حين انجاز باقي النتائج) نحو 25 في المئة.
والمؤشر الأكثر خطورة يكمن في تراجع نسبة استيراد المعدات الصناعية، التي تُعد من المؤشرات الأساسية لإنشاء مصانع جديدة، أو تجديد معدات صناعية، أو فتح خطوط انتاج وتصدير جديدة. وهذه المستوردات تراجعت بنسبة 65 في المئة في العام 2020.