أنقرة في معركة كسر العظم* مرح البقاعي
النشرة الدولية –
لا تنحو تركيا المنحى الصحيح والصحّي في سعيها المحموم لتحقيق هدفها في التحوّل إلى قوة عالمية تراعي الأسس والثوابت الدولية التي تهيّئ لها تبوّء مكانة متقدمة في منطقة الشرق الأوسط التي تنتمي جغرافيا إليها، بينما ترجع الأفكار التي تطرحها حكومة حزب العدالة والتنمية زمنيا إلى توقيت سياسي أكل عليه الدهر وشرب، يعود إلى تاريخ الحرب الباردة، حين كانت الدول تعتمد على فلسفة ليّ الذراع والمراهنات السياسية والمغامرات العسكرية لكسب النفوذ من خلال الاستقواء بجيوش منظمة، أو بميليشيات عابرة للحدود تقوم مقام الجيوش النظامية، من أجل فرض السيطرة بغير حق على أراضٍ للغير مستقلة وذات سيادة.
تلك الفلسفة المتآكلة الصلاحية التي تعتمد عليها تركيا اليوم، جعلتها تخسر أصدقاء وحلفاء لها لا تستطيع أن تكون مؤثرة من دون دعمهم والحفاظ على توازن منضبط معهم، ولاسيما في دول مشاطئة للمتوسط، أوروبية كانت أم شمال أفريقية، هذا ناهيك عن علاقاتها المتوترة مع معظم دول الخليج وقد وصلت إلى حائط مسدود.
ويكاد يكون الانخراط التركي السالب في ليبيا هو أبرز نموذج يجسّد الحالة الشوفينية التركية وقد جرّتها إلى مغامرات عسكرية مشرعنة من قبل برلمانها الذي صادق مؤخرا على تمديد التدخل العسكري التركي المباشر في ليبيا بمدة 18 شهرا، مع الاحتفاظ بقواعدها العسكرية هناك، واستمرار تزويدها بالعديد والعتاد اللازمين لمواصلة مهامها القتالية.
الثقل العسكري التركي في ليبيا هو محور من محاور السياسة الخارجية التركية المعتمَدة لتغيير حمولات القوى لصالحها، ولصالح حلفائها في حكومة الوفاق الليبية، الحكومة التي تقف اليوم على مفترق طرق حقيقي يحتّم عليها الاختيار بين أمرين لا ثالث لهما، الأول هو تدويرها للزوايا الحادة وتعديل كفة الميزان السياسي بحيث تفتح الباب للحوار مع جميع الأطراف المعنية بمستقبل ليبيا ودعم وحدة أراضيها وتمكين سيادتها على أرضها وثرواتها وأمن شعبها واستقراره وحريته.
الأمر الثاني، هو المضي في الانغلاق والتعنت الذي سيؤدي حتما إلى صدام عسكري مع قوات الجيش الوطني الليبي المدعوم من قوى دولية وإقليمية بالمال والسلاح؛ الأمر الذي – إن حدث – سيجرّ ليبيا والشعب الليبي إلى الإيغال في المزيد من سراديب حروب الغير على أرضه، وهي حروب متنقلة وخارجة عن المواثيق وقد لا تنتهي إلا بوقوع ليبيا في براثن استعمار مستجدّ، بنسخة ميليشيوية عابرة للحدود، كائنا من كان المستعمر القادم، والمتربصون بها كثر.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن بقوة: هل لدى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، استراتيجيات واضحة لحملته على لبيبا وبخاصة مع وصول إدارة جو بايدن إلى البيت الأبيض بكل ما تحمل معها من تحفظات على سياسات الرجل التوسعية في الشرق الأوسط، وكذلك موقف بايدن من الانتهاكات التي تديرها الأجهزة الأمنية، والتي لا تزال قائمة منذ تاريخ المحاولة الانقلابية على حكمه في العام 2016، التي هيّأت له الفرصة المثالية للقضاء على معارضيه والزجّ بهم في السجون، من مثقفين وصحافيين وضباط وسياسيين ومعلمين وقياديي أحزاب عريقة؟
وهل سيتنبّه أردوغان إلى ضرورة تعديل سياسته الخارجية قبل فوات الأوان تماشيا مع تغيّر ديناميكية الصراع والاستراتيجيات التي تقودها دول فاعلة لمواجهة الطموح التركي الفائض في شمال أفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط؟
من نافلة القول إن الانغماس التركي في ليبيا قد يشكّل عاملا داخليا مناسبا لأنقرة من أجل تشتيت الانتباه الشعبي عن الوضع الاقتصادي المتداعي، والانخفاض الهائل في الميزان التجاري، وتهاوي قيمة الليرة التركية مقابل العملات العالمية، وذلك نظرا إلى فشل الحكومة القائمة في السيطرة على جائحة كوفيد – 19. إلا أن الهدف البعيد المدى لأردوغان يبدو أكثر جلاء الآن نظرا إلى خارطة تمدداته العسكرية والسياسية للهيمنة في سوريا والعراق وأذربيجان، وأخيرها وليس آخرها في ليبيا، وقد بدأ صبر الدول التي طالها الضرر من طموحات أنقرة على الأرض الليبية ينفد.
ترتبط نزعة المغامرات الحالية للسياسة الخارجية التركية ارتباطا عضويا بمتغيّرات سياساتها الداخلية، فلم تعد حكومة أردوغان ترى نفسها جسرا بين الشرق والغرب وحسب، ولكنها تسعى إلى أن تصبح قوة إقليمية ذات وزن دولي في جوارها المباشر وفي العالم. وتعتبر عقيدة “الوطن الأزرق”، بالتركية “MaviVatan”، التي أسس لها رئيس أركان البحرية التركية، جيهات ياجي، وطورها في العام 2006 الأدميرال، جيم غوردنيز، وهي تطالب بمنطقة بحرية واسعة في البحر المتوسط بين ليبيا واليونان، رمزا لهذه العقيدة التي شكلت لبّ التحوّل الاستراتيجي في العلاقات الخارجية لأنقرة. وليست الاتفاقية البحرية المثيرة للجدل، المتضمنة لترسيم الحدود البحرية، والتي وقعتها أنقرة مع حكومة الوفاق في طرابلس، سوى إسقاط فعليّ لبعض من الخارطة التي ترسم البقعة الجغرافية للوطن الأزرق، وقد مكّنت تركيا من الوصول إلى مواقع الغاز في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط بالقرب من قبرص.
فهل سينجح أردوغان في معركة كسر العظم تلك، أم أن العقوبات التي بدأت تتزاحم على أنقرة من أطراف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ستشكّل سببا رئيسا في التراجع عن أهداف توسعية غامضة ومستحيلة، بل وتنتمي إلى إرث الماضي الآفل وليس إلى المستقبل؟ أتساءل.