البيت الأبيض في عهد «كورونا»* غسان شربل

 

هذا أسبوع المشاهد بامتياز. ولا تكون المشاهد طاغية ولامعة إلا إذا كانت أميركية. هذا على الأقل ما يحدث حتى الآن. لم ندخل بعد زمن المشاهد الصينية على رغم التكهنات باقترابه. الأكيد أنَّه سيكون مختلفاً في حال حدوثه. أميركا شرفة مفتوحة وبلا أسرار. الصين قلعة صارمة والغموض فيها من حراس الهيبة. في الأولى يجرؤ صحافي على نشر الغسيل غير الناصع لمراكز القرار من دون أن تصدمَه سيارة مسرعة أو تدفعه تقلبات عاطفية إلى القفز من الطبقة العاشرة. وعلى رغم وقوع الكرملين منذ بداية القرن الحالي في قبضة رجل بارع في تركيب المشاهد وصناعة الصورة ورعايتها وتحريك البيادق والأرقام، فإنَّ العالم لا يزال أسيرَ المشاهد الأميركية.

سيكون بعد غدٍ يوم المشاهد بامتياز. الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس الذين انقسموا بشدة حوله سيغادر البيت الأبيض. هذه أميركا وهكذا يقول الدستور. في العشرين من الجاري ينتهي التفويض الذي كان الشعب منحه لدونالد ترمب ليقود البلاد التي يمكن القول، مع شيء من التحفظ، إنَّها تقود العالم. لقد فوّض الأميركيون، عبر انتخابات رفضت المحاكم التشكيك في صدقيتها، رجلاً اسمه جو بايدن بقيادة السفينة في الأعوام المقبلة. والدستور واضح وعنيف ولا يتسامح. لا يحق لقبطان السفينة السابق تأخير موعد مغادرته تحت أي ذريعة. هذه أميركا لا تقبل فكرة الرئيس الخالد التاريخي المقيم إلى الأبد. يمكن للرئيس أن يبحث عن الخلود عبر تأسيس مكتبة أو إطلاق فكرة، لكنَّه لا يستطيع البحث بالتشبث بمكتبه وبالأختام.

أميركا شفافة ولا تستطيع النوم على الأسرار. نعرف الآن كيف وصل بايدن وكيف وصل ترمب قبله، والأمر نفسه بالنسبة لأسلافهما. لكنَّنا لا نعرف بالتأكيد ماذا جرى في الغرف المسدلة الستائر في بكين وانتهى بولادة «إمبراطور» جديد اسمه شي جينبينغ. لا نعرف أيضاً الخيوط الحقيقية التي مكنت ضابطاً برتبة كولونيل، كان مكلفاً بتجنيد الجواسيس في درسدن عشية سقوط جدار برلين، من الاستيلاء وبصورة شرعية على الكرملين وتدشين إقامته المفتوحة فيه. هذا العجز عن تمديد الإقامة بلا تفويض من الشعب كان يدفع بعض الرؤساء في الشرق الأوسط إلى اعتبار الرؤساء الأميركيين ضعفاء، لأنَّ موعد سقوطهم معروف حتى ولو فازوا بولاية ثانية. كان من الصعب على المنقذين الوافدين على ظهور الدبابات التسليم بأنَّ للولاية نهاية لاعتقادهم الراسخ بأن القبر وحده يستطيع استدعاء الرئيس، ولا يحق للدستور ارتكاب مثل هذا الإثم.

لم يكن باستطاعة ترمب أن يفعل ما فعله بعض رؤساء الشرق الأوسط. أي تحويل الانتخابات مجرد استفتاء على منسوب الولاء للسيد الرئيس واعتبارها فرصة لتخصيب مستوى هذا الولاء. لا يستطيع استخدام الدبابات، لكنَّه استعاض عنها بالتغريدات مؤكداً أن الانتخابات زُوّرت وأن الفوز سرق منه. ولأنَّ المحكمة هناك محكمة لم يسارع القضاة إلى هجاء الانتخابات والأصابع الأجنبية وإلغاء النتائج.

بعد غدٍ يغادر ترمب البيت الأبيض. دعك من السجادة الحمراء والموسيقى والتحيات العسكرية والطلقات. لياقة ترتيبات الوداع لا تلغي قسوة الوداع. كل وداع قاسٍ فكيف حين يكون وداعاً للبيت الأبيض، أي مقر قيادة الإمبراطورية و«القرية الكونية». وبين جولات الغولف سيكون لدى المغادر متسعٌ من الوقت لإحصاء عدد من خانوه خصوصاً بعد مشاهد اجتياح الكونغرس. لكن الأكيد هو أنَّ محارباً مجهولاً انقضَّ على الرئيس والعالم معاً وسرق من ترمب فوزاً كان محتملاً واسم المحارب فيروس «كورونا».

لن يشارك في الوليمة المسمومة. حفلة التسلم والتسليم. مشاركته تعني قبوله صفة الخاسر التي يكرهها. تعني أنَّه ذهب بعيداً في التضليل بعدما باحت صناديق الاقتراع بمكنوناتها. تعني أنَّه اعتدى على الديمقراطية والدستور أو شجع أنصاره على الاعتداء. لا يريد الانحناء أمام النتائج. ولا يريد إشهار ندمه على الأسلوب الذي تعامل به مع الزائر الغامض، خصوصاً حين حاول التخفيف من خطره وقدرته المدهشة على القتل والانتشار ومهاجمة المدن والأرياف والثكنات والمستشفيات والسفن التائهة في البحار. لا يريد أيضاً مصافحة الرجل الذي دفعه إلى التقاعد. كل عمل بعد البيت الأبيض يعتبر تقاعداً مريراً إذ لا تعويض يوازي هذه الخسارة حتى ولو ازدهرت الأعمال.

بعد غدٍ يغادر الرجل الذي شغل العالم على مدى أربع سنوات. سيغادر مجروحاً فقد وصل الأمر بخصومه حد حرمانه من القدرة على التغريد. هذا فظيع. صعب على المغرد الكبير أن يتحمل خسارتين: البيت الأبيض وشرفة «تويتر». ويفترض أنَّه يعرف أنَّ الدنيا جولات وفصول. وأنَّ حزبه على «تويتر» قد يتصدع ويتفكك. فتغريدات حامل الأختام شيء وتغريدات الرئيس السابق شيء آخر. مرارات.

بعد غدٍ سنطارد أخبار رجل آخر. أخبار جو بايدن. قاموس مختلف وأسلوب مختلف. فهذا الرجل لا يحب العلاج بالصدمات وإدارة الإمبراطورية بالتغريدات. لا يحب إطلاق العواصف واللكمات ومطالبة المؤسسات باللحاق بها وتبريرها والتوقيع عليها. بايدن ابن المؤسسات واللجان والكونغرس والإدارة. لم يخف لعابه فيما يتعلق بالموقع الأول. لكنَّه حين تعذر عليه ذلك جلس صبوراً في مقعد الرجل الثاني. لا تعوزه القدرة على الخطابة واستخدام الشاشات. ومعرفته بملفات الداخل والخارج ليست بسيطة. لكنَّه الحظ يغير اتجاه الرياح. جاء الوباء واقترع ضد ترمب ولن يذهب بايدن إلى التاريخ جالساً في الصف الثاني.

التقط بايدن الرسالة. هذا عهد «كورونا» في العالم. التعامل معه هو البند الأول على جدول الأعمال. النصيحة متروكة للعلماء والمختبرات لمساعدة صاحب القرار على إنقاذ الأرواح والاقتصاد. «كورونا» هو الملف الأول والملف الكبير. لديه في الإدارة الجديدة أصحاب خبرة في التعامل مع الملفات التقليدية الشائكة. التحدي المختلف هو هذا العدو المختلف.

هذا أسبوع المشاهد الأميركية. ها هو البيت الأبيض ينتقل من عهد ترمب إلى عهد بايدن في عهد «كورونا» المفتوح.

 

نقلاً عن “الشرق الأوسط”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى