بايدن أمام ثلاث سياسات تجاه الشرق الأوسط* وليد فارس
النشرة الدولية –
مما يرشح في واشنطن حتى الآن، وربما يتغير مع أحداث مستقبلية، أن إدارة جو بايدن الآتية ستتبنى ثلاث سياسات مختلفة في الشرق الأوسط في الأشهر الستة الأولى من الحكم، حتى تتمكن من ربط هذه السياسات ببعضها البعض، في الأشهر الستة التالية، إذا سمحت الظروف؛ سياسة تجاه إيران، وسياسة تجاه “معاهدة إبراهيم”، وسياسة تجاه تركيا ومحورها، بالإضافة إلى ملفات كالديمقراطية، والنفط، ومكافحة الإرهاب، وغيرها.
الملف الأول والملح هو العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، بسبب إلحاح القوى الضاغطة الاقتصادية التي استثمرت في الاتفاق، إذ إن فريق بايدن للشؤون الخارجية موحد بشكل حاسم من أجل إطلاق مسيرة العودة السريعة، وإن دلت تعيينات بايدن الأخيرة في قيادة الـ”CIA”، والخارجية، ومجلس الأمن القومي، فهي تدل على تولي فريق باراك أوباما ملف الاتفاق، مما لا يبقي أي شك حول ذلك، والسؤال هو كيف سيعود بايدن إلى الاتفاق، على الرغم من انسحاب ترمب العلني منه، ووضع عقوبات واسعة، ووضع كيانات إيرانية كثيرة على لائحة العقوبات الأميركية، وإقامة تحالفات دولية وإقليمية ضد التوسع والنشاطات الإرهابية للنظام الإيراني؟
الجواب بسيط، ففريق بايدن هو نفسه فريق أوباما الذي هندس، وفاوض، ونفذ الاتفاق بين 2013 و2017، ولن تكون هناك حاجة لمفاوضات تأسيسية جديدة وطويلة، أضف إلى ذلك أن الطرفين، فريق بايدن أوباما والإيرانيين، حسب مصادر، وبعض التقارير، كانا على تواصل منذ أشهر عدة، والبعض يتصور أنهما كانا دائماً على تواصل عبر أطراف أوروبية ثالثة منذ 2017، والحاجة بين الطرفين في 2021 هي لوضع خطة عملية للعودة السريعة، من دون الدخول في ملفات معقدة قد تحدث ردود فعل تعرقل التقدم، بل تؤجل متابعة تلك الملفات لما بعد إعادة تشغيل الجزء التنفيذي للآلية، أي استكمال ضخ السيولة، ورفع بعض العقوبات مقابل إعلان طهران إيقاف العمل على البرنامج النووي.
فريق بايدن يعرف تماماً أن عودة سريعة إلى “الاتفاق” ستلاقى بمعارضة داخلية أميركية وإقليمية، خصوصاً في بداية عهد الإدارة الجديدة، وستقوم القوى المعارضة بالضغط على بايدن ليضغط على طهران لتتراجع عن مواقفها، فتطول مفاوضات “العودة”، ما قد يغضب الأوساط “المستثمرة” في الاتفاق، لذا فقد تلجأ الإدارة الجديدة إلى خطة “تقسيم المسارات”، من ناحية أولى، وبسرعة، قد تقوم الإدارة الجديدة برفع القيود عن التعاطي المالي والاقتصادي مع طهران، من دون ضجة تذكر، ويبدأ الضخ المالي والنفطي، أما من ناحية ثانية، فسيتم تأجيل كل “الملفات الساخنة والمعقدة” إلى فيما بعد، ما يعني أن واشنطن الجديدة ستخفف من الخناق المالي من حل النظام فوراً، ولكنها ستأخذ وقتها في معالجة الملفات التي تهم التحالف العربي وإسرائيل، وكذلك ستؤجل معالجتها لأمور المعارضات في إيران و”مستعمراتها” في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، وسنعود إلى التفاصيل في مقالات آتية.
لو قدر لفريق بايدن أن يتعاطى مع كل دول الشرق الأوسط على انفراد، لفضل ذلك، ولو لم يقم التحالف العربي بمساعدة أميركية في 2017، لكان أسهل إقناع هذه الدول أن تؤيد الاتفاق النووي من دون شروط تذكر، إلا أن السنوات الأربع الماضية كانت حافلة بوقائع جديدة ليست سهلة الإهمال، وأهم تلك الوقائع قطعاً كانت انطلاقة المعاهدة الإبراهيمية بمبادرة من الإمارات والبحرين وإسرائيل، تحت مظلة أميركية، والمعاهدة التي توسعت لتضم السودان والمغرب، باتت خلال بضعة أشهر جزءاً ثابتاً من السياسة الخارجية الأميركية ومحبوبة شعبياً، فمن لا يحب السلام؟ لهذا، فقد فرض “السلام الإبراهيمي” نفسه في واشنطن والمنطقة كواقع لا يمكن تجاهله، أما داخل الإدارة الآتية، فالفريق الذي سيمسك بالسياسة الخارجية قد اتخذ قراراً بدعم المعاهدة والعمل على الاستفادة منها دبلوماسياً، بالإضافة إلى الكسب الاقتصادي لبعض القطاعات الأميركية المرتبطة بإسرائيل والخليج.
لذا ستعتمد إدارة بايدن سياسة “البناء على ما أنجز”، والإضافة إليه، وقد تسهم في إضافة شركاء جدد في المعاهدة، إلا أنها، وكما هي عازمة بالنسبة للاتفاق النووي، ستعتمد على فصل المسارات، فهي من ناحية ستمضي قدماً في العودة إلى الاتفاق من ناحية، وستدعم السلام الإبراهيمي من ناحية ثانية، وكأن التناقض غير موجود، وسيعمل مهندسو هذه السياسة البراغماتية على “الكسب على كل الجبهات” حتى يتم تصليب وضع إدارة بايدن داخلياً، وبعد ذلك “لكل حادث حديث”، وللكلام صلة وقتها.
المحور الثالث لسياسة بايدن في المنطقة سيعمل على معالجة العلاقة مع تركيا، ومعروف أن الرئيس رجب طيب أردوغان صور الوضع وكأنه كانت له علاقات خاصة مع الرئيس ترمب سمحت للرئيس التركي بأن يمرر سياسته من دون معارضة في واشنطن، ويبدو للمراقبين أن المسألة كانت كذلك، ولكن العارفين في الأمور الداخلية للبيت الأبيض في السنوات الماضية يدركون أن العلاقة الحقيقية مع قيادة أردوغان كانت عبر بعض المستشارين الثابتين لترمب وعبر لوبيات خاصة.
قيادة بايدن فيها تأثيران في هذا الموضوع، كما أسلفنا سابقاً، الخط الأول يمثله اليساريون المتشددون الذين يعادون أردوغان على أساس التضامن الأممي مع يساريي وتقدميي تركيا ومحيطها، وبالتالي، فسيضغط هؤلاء على بايدن لحمله على فرض تراجع لأردوغان في شمال سوريا أمام قوات “قسد”، وانتقاد حكومته سجلها في حقوق الإنسان داخليا، ومعروف أن بايدن كان قد انتقد الرئيس التركي مراراً من قبل.
إلا أن خطاً ثانياً يمثله اللوبي الإخواني مع تأثيره على عدد من النواب في الكونغرس، سيضغط على بايدن ليسوي الأوضاع مع أردوغان، ولهذا اللوبي حجم يسمح له بالتأثير لأنه شارك في الحملة الانتخابية علناً مصوراً نفسه بأنه شريك في الانتصار، وما يمكن توقعه هو أن بايدن في البيت الأبيض ليس هو نفسه المرشح، كما هو الوضع مع أي رئيس أميركي آخر، لذا فمن الممكن أن يرضي اليسار ببعض المواقف العلنية والأعمال المحدودة في سوريا، ومن ناحية أخرى، يرضي اللوبي الإسلاموي بالإبقاء على علاقة مقبولة مع أردوغان، أما في نهاية المطاف، وكما هو الوضع دائماً، فإن كتل المصالح الاقتصادية هي التي ستمسك بزمام التوجه النهائي تجاه تركيا.
لذا في النهاية، من المتوقع أن تسلك إدارة بايدن على طريق “نستفيد من الكل”؛ الاتفاق النووي، ومعاهدة إبراهيم، والعلاقة مع تركيا، أما الملفات الأخرى، من حقوق إنسان، ومجتمعات مدنية، وأقليات، فتحول إلى “المكاتب المتخصصة للمتابعة”، مع ما تعني هذه العبارة في أروقة واشنطن. هذا في المدى المرموق، ولكن الأوضاع الداخلية، والأزمات العالمية، مليئة بالعواصف والبراكين، لنرى كيف سترسو الأمور في الأسابيع والأشهر المقبلة.