عظمة أميركا* خيرالله خيرالله
النشرة الدولية –
تعطي حفلة أداء الرئيس جو بايدن ونائبته كامالا هاريس اليمين فكرة عن عظمة أميركا. كانت الحفلة التي أجريت في واشنطن مناسبة كي تتأكّد القدرة التي تمتلكها الولايات المتحدة على تجديد نفسها في ظلّ الديمقراطية ومؤسسات الدولة التي ما زالت تمتلك الاقتصاد الأكبر في العالم. لن تحدّ من هذه القدرة العجيبة لأميركا، وهي سرّ قوتها وقوّة مؤسساتها، تصرفات تتسم بالرعونة من نوع مقاطعة دونالد ترامب حفلة التسلم والتسليم بين الرئيس المنتهية ولايته والرئيس المنتخب. هذا أمر يحدث للمرّة الأولى منذ مئة وخمسين عاما. كيف يمكن لشخص تولّى الرئاسة الأميركية الإقدام على مثل هذه الحماقة كاشفا أنّه لا يعرف بلده في العمق…
وعد ترامب، الذي غادر البيت الأبيض قبل بدء حفلة تنصيب بايدن ونائبته كمالا هاريس واشنطن إلى فلوريدا، بـ”العودة” إلى الحياة السياسية. لكنّ الأيّام الأخيرة من وجوده في الرئاسة، خصوصا منذ بدء ظهور نتائج الانتخابات في الثالث من تشرين الثاني – نوفمبر الماضي، كشفت أنّه من أولئك السياسيين الذين لا يعرفون كيف يخسرون. فمن لا يعرف كيفية التصرّف ساعة الخسارة وكيفية تقبّل الخسارة لا يستطيع أن يربح يوما.
خرجت أميركا أقوى مما كانت من تجربة اقتحام أنصار ترامب لمبنى الكابيتول في واشنطن. أظهرت الديمقراطية الأميركية أنّ لديها أنيابها وأن ليس سهلا تجاوز مؤسسات الدولة الأميركية
إذا كانت حفلة أداء جو بايدن وكامالا هاريس اليمين أظهرت شيئا، فهي أظهرت أن المؤسسات الأميركية لفظت دونالد ترامب ولا يمكن أن تقبل بعودته رئيسا آو لاعبا سياسيا في يوم من الأيّام. ما فعله أنصار ترامب الذين اقتحموا مبنى الكابيتول في السادس من الشهر الجاري ليس حادثا عرضيا في أيّ شكل. لا يمكن للمؤسسات الأميركية أن تغفر لترامب خطيئته. لا يمكن لهذه المؤسسات تقبّل شخص وصل إلى البيت الأبيض بفضلها وبفضل صناديق الاقتراع وما لبث أن تمرّد عليها وعلى الأسس التي تتحكّم بها. في مقدّم هذه الأسس الانتقال السلمي للسلطة واعتراف الخاسر بخسارته.
كان في استطاعة دونالد ترامب الاستعانة بما كتبه جورج بوش الأب، أحد أعظم الرؤساء الأميركيين، عندما خسر أمام بيل كلينتون. تبقى رسالة بوش الأب، وهي بخط يده، إحدى أجمل الرسائل التي يكتبها رئيس خاسر، لم يستطع الحصول على ولاية ثانية، إلى رئيس رابح لا يمتلك الكثير من المؤهلات التي كان يمتلكها بوش الأب. مما جاء في الرسالة المؤرخة في 20 – 01 – 1993 الآتي: “عندما دخلت هذا المكتب (مكتب الرئيس) في هذه اللحظة، امتلكني الشعور نفسه بالرهبة والاحترام الذي كان امتلكني قبل أربع سنوات (يوم بدء ولايتي الرئاسية). أعرف أن الشعور نفسه سيمتلكك أيضا”. خلص إلى القول “عندما ستقرأ هذه الرسالة، ستكون أنت رئيسنا. أتمنّى لك ولعائلتك كلّ الخير. إن نجاحك الآن هو نجاح لبلدنا”.
على الرغم من وباء كورونا (كوفيد – 19) الذي قتل 400 ألف أميركي حتّى الآن، استطاع منظمو حفلة أداء اليمين تحويل جوّ المناسبة إلى جوّ فرح وتفاؤل. لم يكن خطاب بايدن نفسه بعيدا عن هذا الجوّ إذ سعى إلى التشديد على صلابة الديمقراطية الأميركية، كما ظهر في الحفلة نجوم أميركيون مثل ليدي غاغا وجنيفر لوبيز.
هذا لا يمنع التساؤل ما الذي ستكون عليه ولاية جو بايدن؟ الأمر الوحيد الأكيد أنّ الإدارة الجديدة ستنصرف إلى معالجة وضع الاقتصاد والنتائج الكارثية لـ”كوفيد – 19”. سيكون لدى الإدارة خط واضح في مجال السياسة الخارجية. يقوم هذا الخط على تشكيل جبهة عريضة تضمّ أميركا وحلفاءها لمواجهة الصين التي باتت تشكّل التحدّي الأكبر للولايات المتحدة. هذا يعني، في طبيعة الحال، التخلي عن سياسة إدارة ترامب التي قامت على تجاهل الحلفاء الأوروبيين والآسيويين، خصوصا اليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام. معروف أن لدى فيتنام حساسية خاصة بها تجاه الصين بسبب قربها منها من جهة والنزعة لدى الشعب الفيتنامي إلى رفض أي هيمنة خارجية من جهة أخرى.
سيكون على الإدارة الجديدة التعاطي مع تحديات اسمها روسيا وكوريا الشمالية وإيران وتركيا. كان أنطوني بلينكن المرشح لتولي موقع وزير الخارجية في إدارة بايدن واضحا كلّ الوضوح في شهادته، أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، عندما تطرّق إلى تركيا. قال بالحرف الواحد “إن تركيا لا تتصرّف تصرف الحليف”. بالنسبة إلى إيران اكتفى بكلام عام عن ضرورة منعها من الحصول على السلاح النووي. كيف ذلك؟ لم يدخل في التفاصيل، لكنّ مديرة الأمن الوطني أفريل هينز، كانت أكثر وضوحا عندما أكدت أن “الطريق ما زالت طويلة أمام العودة إلى إحياء الاتفاق في شأن الملف النووي الإيراني”، وهو اتفاق وقع في العام 2015.
لا بدّ من الإشارة هنا، إلى وزير الخارجية المقترح، أي بلينكن، الذي تطرّق طويلا إلى المحرقة اليهودية وكيف طالت أفرادا من عائلته، لم يعترض أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ على تصفية إدارة ترامب لقاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني في الثالث من كانون الثاني – يناير 2020 بعيد مغادرته مطار بغداد. بشكل عام، لن تكون عودة العلاقة بين الإدارة الأميركية وإيران بالسهولة التي يعتقدها المسؤولون في طهران. الأكيد أن لا استعجال أميركيا لإعادة الحياة إلى الاتفاق النووي مع إيران من دون توافر شروط معيّنة، بما في ذلك مشاركة دول الخليج العربي وإسرائيل في أي مفاوضات لتحقيق هذا الغرض. هذا على الأقل ما قاله علنا غير وجه بارز في الإدارة الجديدة…
لا يمكن للمؤسسات الأميركية أن تغفر لترامب خطيئته. لا يمكن لهذه المؤسسات تقبّل شخص وصل إلى البيت الأبيض بفضلها وبفضل صناديق الاقتراع وما لبث أن تمرّد عليها
خلاصة ما قاله بايدن في يوم تنصيبه إنّ “الديمقراطية انتصرت” وإن المهمّ “توحيد الشعب والأمّة”. خرجت أميركا أقوى مما كانت من تجربة اقتحام أنصار ترامب لمبنى الكابيتول في واشنطن. أظهرت الديمقراطية الأميركية أنّ لديها أنيابها وأن ليس سهلا تجاوز مؤسسات الدولة الأميركية، خصوصا دستورها.
لا شكّ أن تحديات كثيرة تنتظر الإدارة الجديدة. التحديات داخلية أوّلا، لكنّ ما ظهر إلى الآن أنّ ثمة رغبة لدى الديمقراطيين والجمهوريين في طيّ صفحة ولاية ترامب الذي يتبيّن كلّ يوم أن نجاح سياسته الخارجية في مجالات معيّنة لم تكن من صنعه هو، بل هناك من صنعه له. سيأتي يوم تكشف فيه تفاصيل هذا النجاح وأسراره.