بايدن أمام شرق أوسط لا يستسيغ أوباما جديدا* فارس خشّان
النشرة الدولية –
وصول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى البيت الأبيض لن يقلب رؤية الولايات المتحدة الأميركية إلى الشرق الأوسط رأساً على عقب. الحليف لن يصبح عدوّاً، والعدو لن يتحوّل حليفاً.
لكنّ استقرار الرؤية لا يعني أنّ الأمور لن تختلف عمّا كانت عليه، لأنّ المتغيّرات لا تصنعها الأهداف الاستراتيجية بل الخطوات التكتيكية. وفي التكتيك ثمة فرق شاسع بين “الخارج” دونالد ترامب و”الداخل” جو بايدن.
دونالد ترامب كان مؤمناً بجدوى سياسة الضغوط القصوى، فهو ينتمي إلى تلك الفئة التي لا “تحب” أعداءها إلّا عندما يستغيثون.
المشكلة في هذا المسار، على الرغم من كثرة مؤيّديه، أنّه ليُثمر يحتاج إلى الوقت والديمومة في آن، وهذا غير متوافر للأنظمة الديمقراطية التي تقوم على “الولاية المؤقتة” من جهة، وعلى تداول السلطة من جهة أخرى، والدليل على ذلك أنّ جو بايدن أخرج دونالد ترامب من البيت الأبيض، بعد أربع سنوات فقط على دخوله إليه، من دون أن يتمكّن من مصافحة يد واحدة من تلك الأيادي التي كان يضغط عليها حتى… تلين.
إنّ المستهدفين بسياسة الضغوط القصوى هم عموماً من الديكتاتوريين الذين يعتبرون أنّ الوقت حليفهم وشعوبهم ملكهم ومصير أوطانهم جزء لا يتجزّأ من مصائرهم، وتالياً فهم يكتسبون قوتهم من ديمومتهم ومن استخفافهم بشعوبهم.
مدرسة بايدن ورهانات خصومها
أسلوب جو بايدن لا يشبه أبداً أسلوب دونالد ترامب، فهو ينتمي إلى مدرسة تُجزّئ الأهداف، وتتواصل مع العدو، وتستمع للخصم وتقود الحليف، رغماً عنه، إلى ما تعتبره هي… خيره.
إنّ شعور أعداء وخصوم واشنطن في الشرق الأوسط بالإرتياح، بعد دخول جو بايدن إلى البيت الأبيض، إنّما ينطلق من معرفتهم بأصول المدرسة التي ينتمي إليها جو بايدن، وفق ما سبق أن طبّقته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما.
وعليه، فإنّ إيران تعتقد أنّ الإدارة الأميركية الجديدة تريد بأيّ ثمن أن تمنعها من الوصول إلى مرحلة إنتاج القنبلة النووية، ولهذا فهي تبث أخباراً عن أنّ أشهراً قليلة فقط تفصل بينها وبين هذه المقدرة، وتالياً فعلى واشنطن “الجديدة” أن تعود إلى الاتفاق النووي الذي مزّقه ترامب، من دون فرض شروط جديدة تتعلّق بمصير صواريخها الباليستية والميليشيات التابعة لها في عدد من العواصم العربية.
وتراهن طهران على أنّ إدارة بايدن سوف تضعف حلفاء واشنطن في المنطقة، بممارسة ضغوط عليهم، لتتمكّن من تحقيق هذا الهدف، الأمر الذي يُعزّز سطوة إيران، مباشرة أو بواسطة القوى الملحقة بها، على منطقة الشرق الأوسط.
وترى طهران أنّ إدارة بايدن، بما أنّها تراهن دائماً على المعتدلين، فإنّها سوف تسلّف من تصدّق أنّهم “المعتدلون” حتى يتمكنوا من تحقيق انتصار على المتشددين في الانتخابات الرئاسية المقررة في يونيو المقبل في إيران.
لبنان و”حزب الله”
إنّ الرهان الذي يعقده خصوم الولايات المتحدة الأميركية وأعداؤها بخصوص إيران يعقدونه أيضاً على دول مثل لبنان.
في ظنّ هؤلاء، إنّ إدارة بايدن، خلافاً لإدارة ترامب، لا تنظر الى لبنان على أساس أنّه وحدة سياسية متراصة تتحمّل مسؤولية شاملة عن سيطرة “حزب الله” على البلاد، بل تعتبر أنّ في لبنان قوى متباينة، ولا بد من فتح قنوات داعمة حقيقية لتلك التي تؤمن بالدولة ممّا يعينها على تقوية المؤسسات لتتمكّن في اللحظة المناسبة من فرض نفسها على حساب الدويلة.
ويرى هؤلاء أنّ هذا التوجّه الأميركي من شأنه أن يعيد الإعتبار إلى المعادلات التي كانت قائمة في الولاية الثانية لإدارة باراك أوباما، بحيث تشكلت حكومات بالشراكة مع “حزب الله” وتمّ إيصال رئيس للجمهورية سبق أن اختاره “حزب الله”.
الفوارق بين زمني أوباما وبايدن
هل هذه الرهانات صائبة؟ الإجابة الحاسمة عن هذا السؤال غير ممكنة، لأنّ واشنطن “براغماتية”.
إنّ الواقع في الشرق الأوسط مع استلام بايدن للسلطة مختلف عن ذاك الذي كان عليه حين وضع باراك أوباما “عقيدته”.
في زمن أوباما، هبّت رياح الربيع العربي، وكان كثيرون يعتقدون أنّ هذه الرياح التي أسقطت حلفاء لواشنطن، مثل النظامين التونسي والمصري، سوف تهب، بالقوة نفسها، على دول مهمة في مجلس التعاون الخليجي.
الوقائع مع وصول بايدن إلى البيت الأبيض تختلف اختلافاً جذرياً، فدول مجلس التعاون الخليجي هي، حالياً، أقوى بكثير ممّا كانت عليه، فيما الولايات المتحدة الأميركية، بسبب تأثيرات جائحة كوفيد-19 أضعف اقتصادياً ممّا كانت عليه، وتالياً، فإنّ التعاون بين هذا المجلس وواشنطن هو ضرورة أميركية كما هو ضرورة خليجية.
في زمن أوباما، تمكّن النموذج التركي الذي أرساه الرئيس رجب طيب إردوغان، قبل أن ينقلب عليه، في ضوء محاولة الانقلاب التي تعرّض لها، من “تسويق” فكرة استلام “الإسلام السياسي” للحكم في الدول الإسلامية، ولكن هذا “البديل” سقط، في الوقت الراهن، لا سيّما أن نظرة بايدن إلى إردوغان، بدعم من الحلفاء الأوروبيين، تميل إلى السلبية التي وصلت إلى حد التهديد بدعم خصومه للإطاحة به.
في زمن أوباما، لم تكن هناك اتفاقيات إبراهيم بين عدد من الدول العربية والخليجية من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، وتالياً كانت القوى الإقليمية التي تخاصم إيران مشرذمة و”يخجل” بعضها بالبعض الآخر. مع وصول بايدن إلى البيت الأبيض، ثمة متغيّر استراتيجي، لا يمكن القفز فوقه أو إسقاط جدواه أو منع تعميم نموذجه.
في زمن أوباما، لم يكن “حزب الله” مدرجاً على لوائح الإرهاب الخليجية والعربية. كانت النظرة إليه كقوة مقاومة قد ضعفت، ولكنها لم تكن قد انقلبت كليّاً. مع وصول بايدن، لن تجد الولايات المتحدة الأميركية من يموّل أي دولة يلعب فيها “حزب الله” دوراً رائداً كما هي عليه حال دولة لبنان.
ومن يعتقد أنّ الدول الحليفة للولايات المتحدة الأميركية تخضع لإملاءاتها، ليس عليه سوى مراجعة وقائع الإطاحة بالرئيس المصري الراحل محمد مرسي، رغماً عن أنف أوباما، ومسارعة الاتحاد الأوروبي إلى توقيع اتفاق تعاون اقتصادي مع الصين، على الرغم من شرارات اندلاع “حرب باردة” بين واشنطن وبكين.
ولكن، مهما كانت عليه الحال، فإنّ “البراغماتية” الأميركية التي يمكن المراهنة عليها تقتضي من الدول التي تسوؤها المدرسة التي ينتمي إليها جو بايدن أن تُثبت قوتها من جهة وأن تقدّم ما تمتلكه من حلول للمشاكل التي لن تقبل واشنطن بتحوّلها الى مأزق، مثل امتلاك إيران السلاح النووي، من جهة أخرى.
ثمة مبدأ أساسي في “عقيدة أوباما” لم يتضرّر مع مرور الزمن. إنّه مبدأ “القيادة من الخلف”. فهل بات حلفاؤها يملكون القدرة ليكونوا هم في مقدمة المواجهة؟