النموذج اللبناني: سلطة ترقص على… القبور* فارس خشان
النشرة الدولية –
النهار العربي –
أخرجت جائحة كوفيد 19 دونالد ترامب من البيت الأبيض. الغالبية الأميركية اقتنعت بأنّ الرجل فشل في إدارة هذه الأزمة، ولذلك كادت الكمّامة أن تكون الشعار الأهم لخصمه الرابح، جو بايدن. سقط “الأناني” وانتصر “الحريص”.
وفي فرنسا، لا تزال “كذبة دولة” زعمت عدم جدوى الكمّامات في مكافحة انتقال عدوى فيروس كورونا-سبق أن توسّلتها الإدارة الفرنسية مع انتشار الموجة الوبائية الأولى، للتخفيف من حجم فضيحة عدم توافر الاحتياطات الكافية- تلاحق رئيس الجمهورية ايمانويل ماكرون كالكابوس، على الرغم من أنّه بذل جهوداً جبّارة، لاحقاً لقلب هذه الصفحة “الدعائية” السوداء، بحيث أصبحت فرنسا من أفضل الدول الأوروبية في نتائج تصدّيها للموجة الثانية.
جائحة كوفيد 19 أوقعت كلّ دول العالم، في مأزق كبير، ولكنّ غالبيتها تمكّنت من توحيد جهودها واستثمار طاقاتها وتصحيح أخطائها، من أجل أن تحتوي الأخطار الكبيرة وتحدّ من الخسائر الرهيبة.
لم تجمّد هذه الدول خططها لمعالجة مشاكلها الأخرى التي تعرف أنّها، في حال أهملتها، سوف تضيف مآسي كثيرة على مأساة كورونا الكبيرة.
لا الولايات المتحدة الأميركية أهملت انتخاباتها الرئاسية وما تحمله من عناوين مهمة تُعنى بشعبها كما بالعالم، ولا فرنسا أهملت الملفات الساخنة مثل علاقة الدولة بالإسلام السياسي، والتأثيرات النفسية لانقطاع طلّاب الجامعات عن قاعات المحاضرات، والإستغلال الجنسي للقاصرين، والصعاب التي أنتجها خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، والعلاقات المتوترة مع تركيا، وخلافه.
صحيح أنّ ارقام ضحايا كوفيد 19 كبيرة، ولكنّ الصحيح أيضاً أنّه لولا توحيد الجهود وشحذ الطاقات وتوسيع الآفاق وتنويع الأولويات، لكانت الضحايا أكثر بأضعاف مضاعفة، ولكان الفقراء يفترشون الطرق، ولكانت آلاف المؤسسات أعلنت إفلاسها، ولكانت الإضطرابات الأهلية أدمت المجتمع، ولكان شبح الموت يخيّم على الجميع.
النموذج اللبناني
ثمة دول قليلة شذّت عن هذه القاعدة، يتقدّمها لبنان الذي ابتلى بسلطة تعيش على دماء شعبها.
والسلطة في لبنان لا تعني حصراً هؤلاء الذين يحملون ألقاب “الفخامة” والدولة ” و”المعالي” والسعادة”، إذ يتقدّم عليهم من يحمل ألقاباً من طبيعة أخرى، مثل “السيّد”.
أيّ دولة في العالم، يعاني شعبها من الويلات التي يعاني منها الشعب اللبناني، تنكب فيه قياداتها على تدبيج الشتائم بحق بعضها البعض الآخر، بدل أن تتنافس على تقديم برامج الإنقاذ؟
أيّ دولة في العالم، يسقط نظامها الإستشفائي بعد نظامها المصرفي، تتصارع قياداتها على الحصص الحكومية، بدل أن تتفاهم على رؤية تهدف الى الحد من الخسائر؟
أيّ دولة في العالم، يكون عدوّها المعلن قد أنجز تطعيم ربع شعبه تقريباً وتدخّل مصرفه المركزي في السوق المالية بهدف التخفيف من قوة العملة الوطنية-وهذه هي حال إسرائيل-تجد فيها من يسمّي نفسه “قائد المقاومة” يقتل وقته، بين صياغة خطابات “التصدّي والمواجهة والتعظيم” وبين خرائط نشر صور وتماثيل جنرال إيراني، بدل أن يفكّر في التنازلات المطلوبة منه وطنياً-وما أكثرها-من أجل وضع حدّ للنزيف الهائل، إنسانياً واستشفائياً ومالياً واقتصادياً واجتماعياً، ممّا يهدّد مصير وطن يزعم الدفاع عنه؟
أيّ دولة في العالم، تتحوّل قياداتها الى “سبقجية”، فتُمضي وقتها في بذل شعبها على شراء الرهانات على المتغيّرات الدولية والإقليمية، وكأنّ وصول جو بايدن الى البيت الأبيض، مثلاً يُحيي الموتى، ويُعوّم الليرة، ويُحقّق الإصلاح، ويحوّل الجحيم فردوساً؟
أيّ دولة في العالم، وقد تدهورت أحوالها إلى القعر الذي تدهورت إليه أحوال لبنان، لا تجد قياداتها نفسها تقدّم التنازلات وتلجأ الى الكفاءات وتعلّق الطموحات وتُقفل أفواهها، وتخجل من نفسها، وتخشى ألّا تجد حارساً يقبل بالتصدّي لمن يمكن أن يعتدي عليها؟
اللبناني يموت. موجوعاً يموت. مهاناً يموت. مقهوراً يموت. قلقاً يموت. أمّا القيادات التي توهّم أنّه نصّبها-باسم عصبية دينية هنا ومصالح فانية هناك وغسيل دماغ دعائي هنالك-فتتبارى بحقارة، من دون أن يرف لها جفن، للحصول على لقب “الأقوى”.
هؤلاء لا يصلحون لشيء. لا بتفاهمهم يفلحون ولا بخصوماتهم. هم خطر على شعبهم ووبالاً على الديموقراطية. إنّهم تجّار مقاومة، ولصوص هياكل. إنّهم ينتشون في رقصاتهم على…القبور.
هؤلاء لا تليق بهم سوى سجون الحاضر و…مزابل التاريخ.
مفاتيح سجون الحاضر ليست بمتناولنا. هذا صحيح. أمّا “مزابل التاريخ” فلن يموت جميع من يعمل على رميهم فيها.