ما زالَ حيَّا ومن حكاوى الرحيل – الحكاية السابعة* د. سمير محمد أيوب
النشرة الدولية –
ذاتَ صُبحٍ ربيعيٍّ حزين، عَسْعَسَ ليله أو كاد، وصهيلُ ديكٍ بلديٍّ مُتَفَلِّتٍ، أحسستُ بحاجةٍ ماسةٍ لعناقٍ يُدفِؤُني، ويُزاحِمُ حَزَني لأبتسمَ بلا سبب.
وسط زحامِ تلك اللحظة، تَسَلَّلَتْ ملامِحُها وحاصرَتْني، فابتسمتُ تِلقائيا. و بعد صلاة الفجر، هَرَعْتُ كما إعتدتُ، إلى ذات الدلال أضمها، وألوذُ في ثنايا رضا روحها. على عتباتِ سريرها الفارغ من جسدها، إلتصقتُ بكل التفاصيلِ المُفعمةِ بها. وسرعان ما أدْمَعَتْ عينايَ. فقررتُ أن أسري إلى مأواها بخطىً مُهروِلةٍ ، فلا يَفهمُ لُغةَ حُزْنيَ إلاَّ إثنتان، أمِّي وأمِّي يرحمُهُما الله.
قبل ان ينتصفَ النهارُ، مُرْهقاً كنتُ عند مأواها في المدفن. فَرِحْتُ حينَ التقيتُ أرملة إبن عمي، قد سبقتني بوقتٍ أتاحَ لها أن تُنظِّفَ مُحيطَ قبرِ زوجها، وقبرَ أمِّي المُلاصقِ لقبرِ زوجها. وقد نثرَتْ الكثيرَ منَ الماءِ عليهما، وأرْوَت ما حَولَهُما من نباتٍ. حيَّيْتُها مُبتسماً، ثم إحتَضَنْتُ قبرَ أمي مُطَوَّلا وغَفَوتُ. أفقتُ على هزةٍ لكتفي مُرافقةً لعبقِ قهوةٍ فواح ، تُقدِّمها ليَ السيدةُ المتَّشِحة بسوادٍ أنيق. سألتُها ويميني تمتد لتناول فنجال القهوة من يمينها: ألا تُضنيكِ يا سيدتي، هذه الزياراتُ المُتكرِّرَة للمرحوم ؟!
قالت بصوتٍ مُتهدّج ونبرةِ حَزَنٍ، وهي تمعن النظر في شاهد قبر زوجها: ما زالَ وطناً، إستثنائيته باذخة الأناقة.لا يخذِل، لا يعذِل، ولا يبتعِد، وطنٌ قريبٌ بالشعورِ وبالحضور. إنّه أوّلُ وأهمُّ منْ علّمَني الرقصَ تحت المطر. وعلى صوت الزوابع، علّمَني قراءة الكثير من قصائد الحياة. ما انتظر مرور عاصفةٍ، ليأتيَ لي بالورد. يقترب دائما لحل شيفراتي وتفكيك أُحْجِياتي، واجتياز متاهاتِ جِراحي إنْ رَعَفَت.
قاطعتُها باحترامٍ كُليٍّ: ولكنّه رحَلَ مِنْ سِنينٍ سبعٍ!!!
قبل أنْ أكملَ، رفَعَتْ بصرَها قائلة: صحيحٌ، لم يَعُدْ كَمَّاً ماديا، ولكنَّ حضورهُ النَّوعيُّ طاغٍ، مُحيطٌ بِبعضِ كُلِّي وكُلّ كُلِّي. إنْ كنتُ لا أحْسنُ الإمساكَ بِشذاه، أطيلُ التفكيرَ فيه. أستسلمُ لِمَنْ يدركون أنَّ كلَّ الطُّرقِ لا تُؤدي إلا إليه، سِباقُ ساقيَّ وقلبي. نَصلُ لاهثين إلى مَنْ كان يوماً هناك. ورحلَ دونيَ مُتعجّلا. أمتلئ فَرَحاً وأنا أقفُ عند بواباتِ مأواهُ المؤقت. هنا ، قبل أكثر من ربعِ قرنٍ، إلتقيتُه أوَّلَ مرَّةٍ. وذاك ، مما يُبقي لهذا المكان يا شيخي، جمالُ ونكهةُ البِدايات.
قلتُ كَمَنْ نفذَ صبرُه: أوَلَمْ تُحاولي نِسيانَه والبدء من جديد ؟
تَنَهَّدَتْ وهي تقول ترتيلا: بعد رحيله ، وسط زحام التيهِ الحزين ، حاولتُ إعادة تشكيل تضاريس زماني والمكان. فَشلتُ بإمتياز. قبل سبع سنين، حمل الموت بعضه إلى هناك وإلى هنا. سبعٌ عِجافٌ، لم تنجح في شطبه من خرائط حياتي ودهاليز معارجها. نِسيانه عصيٌّ غير ممكن. تناسيه لم يخطر ليَ على بال. إنْ أقصيته قسرا، لن أعود كما كنتُ قبل مِعراجه وقبلَ رحيله. بل كلَّما أردتُ التَّوازن ، أعودُ إلى هنا، أقفُ مُتوسلةً. أدُقُّ قبرَهُ بقبضاتِ وجعي، ليفيقَ مِنْ نَومته . أستشيره في الكثير مما أنا فيه. نعيدُ ترتيلَ الكثير من ذكرياتنا. وأناجيه بكل ما في الروح من ونَّاتِ الجَوى.
ما كنتُ أنوي أن أُثْقِلَ عليها أكثر، لولا أني أبصرتُ دمْعاً يسري من عينيها المغمضتين، ويستقر حَيٍيَّا على حوافِّ ذقنها المدبب. شجعني دمعُها الطازج، لأسألَ مُتَرَدِّداً: بعد الإفاقة بمَ تُناجيه؟
بِبطءٍ شديدٍ تفتحُ عينيها ، وبِهمسٍ آتٍ من البعيدِ تقول، دون أن تلتفت إليَّ: قُمْ واقفاً يا سَنَدي. لا تَنتظر فرصةً مُواتية. يوجِعُني غِيابُك. عيناك ما زالت تهزِمُني يا رجل. تعالَ فَكُلُّ ما في القلبِ بِيِنْدَهَكْ. قُمْ واقفاً على ناصيةِ كَفَنِكَ وتفاصيل مَوْتِكْ. هناكَ ضَحَكاتٌ لم نُعاقَرها بعد.
يا حبيبي، قُمْ واقفاً. وإن كنتَ أقرب إليَّ من حبل الوريد، فكل الأماكن مشتاقة لك. في الحياة الدنيا أيضا ، ما يستحق ان يقرأ بتمهل يا رجل.