شارع شيكاغو: علامه فارقه في الدراما العربيه* د. سهير ابو عقصه داود
النشرة الدولية –
تابعت بشغف دراما شارع شيكاغو والتي تجري احداثه بين زمنين: زمن الحقبه البوليسيه التي أسسها عبد الحميد السراج رجل عبد الناصر في سوريا أيام الوحده العربيه بين مصر وسوريا 1958-1961 وبعد خمسين عاما من هذه الفتره بالذات عام 2009، وهو العام الذي يفصلنا قليلا عن اندلاع الحرب المدمره في سوريا. ومع ان أحدا لا يستطيع ان يشكك بإبداع الممثلين السوريين بشكل عام الا ان الدراما السوريه والعربيه بشكل عام ينقصها أنواعا من الاعمال كشارع شيكاغو والذي يشكل لا شك علامه فارقه ليس فقط في الدراما السوريه بل العربيه بشكل عام ومن المؤسف ان يضطر طاقم عمل هام بهذا الحجم وهذا المستوى الى “الدفاع” عنه امام هجوم بعض او كثير ممن ينصبون انفسهم القائمون على الاخلاق والاوصياء على الفضيله وكل هذا بسبب بضعه مشاهد حميمه. ولا ادري كيف يمكن ان ينادي شعب بالحريه والديمقراطيه ولا يتحمل مشهد قُبله في سياق درامي. وقد وعينا وكبرنا على الأفلام العربيه المصريه التي غزت كل بيت في الستينات والسبعينات وكان البلاج والميني والمايوه حاله عاديه مع عمالقه السينما المصريه ولم تكن هذه الأمور لتحدث أي جلبه او ضجه. ورغم انه كان بالإمكان التخلي عن هذه المشاهد القليله والاكتفاء بالايحاء الا انني اعتقد ان المخرج المتميز محمد عبد العزيز تعمد هذا وكان لمشهد فيلم لعبد الحليم حافظ الذي انتهى بقبله حميمه مع بطله الفيلم دلاله واضحه ان المخرج يريد ان يذكرالمشاهد بفتره ما يسمى ب”الزمن الجميل” والذي تاه في غياهب التطرف والتعصب والنفاق وكل هذه أمور يعالجها هذا المسلسل في اكثر من سياق.
ويبدأ المسلسل بالكهل نعمان (دريد لحام) الذي يعترف بجريمه قتل قام بها في الستينات ضد مطربه شارع شيكاغو العمياء ميرامار(سلاف فواخرجي) ويقدم اداه الجريمه ولكن لا احد يصدقه ويتم قتله سريعا حتى يتم اخفاء اي تفاصيل قد تعيد فتح حكايه مضى عليها خمسون عاما. لكن المحقق يوسف (وائل رمضان) يرفض اغلاق القضيه ويتابعها حتى النهايه وبسبب إصراره على فك اسرار اختفاء ميرامار ستكون نهايته أيضا. وهكذا تتنقل فيها المشاهد بين سنوات الستينات وال 2009 حيث يعالج فيها المخرج قضايا مجتمع مأزوم من خلال قصه حب تجمع بين ميرامارالتي ترى بإحساسها وبصيرتها وقلبها اكثر بكثيرمما يراه المبصربعينيه وبين صحفي تقدمي شيوعي مراد عكاش (مهيار الخضور في الصبا وعباس النوري في الكهوله) والذي يلتقي بالثائر ارنستو تشي جيفارا اثناء زيارته لدمشق، ومصر وغزه وغيرها، عام 1959 حيث يصبح جيفارا رفيق مراد في المخيله على مر السنين كما ستصبح كذلك حبيبته ميرامار بعد اختفائها الغامض خمسين عاما.
وشارع شيكاغو الذي صور حياه الليل والبارات والجريمه والطمع والفن والطبقيه والسياسه والثوره والصدام مع الاخوان المسلمين هو صوره مصغره عن المشهد السوري العام والذي بشكل ما لم يتغير كثيرا بعد خمسين عاما رغم كل التغيرات الظاهريه فنرى ان العديد من الشخصيات التي عاصرت حقبه الستينات لا تزل موجوده بعد خمسين عاما بوجوه جديده وقد يستمر استنساخ نفس الشخصيات لأن هذه الشخصيات موجوده في كل المجتمعات وفي كل الازمان والمخرج يعبر هنا عن حاله انسانيه عامه لواقع الاضداد بين حاملي القيم والثائرين والحالمين من جهه وبين المنافقين والطامعين والذين لا يتورعون عن القيام بأي عمل من اجل المال والسطوه. وتلعب شخصيه برهان رجل الامن الموالي للسراج (جوان الخضر) في صباه و(جمال قبش في الكهوله) دورا أساسيا في دعم هذا التشخيص للحاله السوريه قبل احداث 2011 وبرهان شخصيه محوريه مركبه اداها الممثلان بحرفيه متناهيه فهي شخصيه استطاعت التأقلم مع الاحداث السياسيه والامنيه العاصفه بعد الانقلاب على الوحده وفكها عام 1961. وما اكثر هؤلاء في مجتمعاتنا وهم القادرون على التلون وتغيير الولاءات حسب الظروف. وبرهان 2009 لا يختلف عن برهان الستينات كثيرا فمن رجل امن لا يقف احد في وجهه الى رجل اعمال فاسد لا يقف احد في وجهه أحد. القتل بالنسبه له لديه حدث عادي وقد تجلت سطوته في مشهد قتل المطربه سماهر “أمل عرفه” التي ابدعت في شخصيه رُسمت بذكاء كبير: فهي تعبر عن قمع المرأه وتزويج القاصرات قسرا من اجل المال ولكنها تتمرد على واقعها فتقتل ووجها وتلجأ الى الفن والغناء فيتبرأ منها والدها الفنان المبدع ” تيسير ادريس” ولا تملك الام المسلوبه الشخصيه والمسحوقه (المبدعه ايمان عبد العزيز) الا ان تطيع زوجها متنكره لاولادها ولامومتها مخافه اغضابه وحتى حين يتزوج عيلها ويقضي لياليه مع الزوجه الاخرى على مرأى منها، لا تملك الا ان تبارك هذا الزواج. وكوصف الماغوط: من شده سحق المواطن العربي اجتماعيا سياسيا امنيا اقتصاديا وعاطفيا صار “بودره.” وتنتهي عرفه عند برهان وتصبح اداه في يده مقابل المال ومن المثير جمله برهان لها بعد ان سألها: ماذا تريدين من الحياه فتجيب: “مصاري مثل كل الناس” برهان يقول لها ان لا احد يملك ثروه في هذه البلد الا وامتلكها فوق القانون. وتصبح ميرامار الزمن الجديد نفسها في مرحله ما ضحيه برهان ومن هم فوق القانون حين ترفض ان تقتل اخاها يوسف ضابط الامن الذي يتصدى للفساد ويرمز لكل شي جميل ولم يكن هناك افضل من المبدع وائل رمضان لهذا الدور المخيف الذي أداه.
وتتجلى عبقريه المخرج وكاتبي السيناريو في اكثر من مكان في هذا العمل. ومن اكثر المشاهد التي استوقفتني مشهد ميرامار تغني في حفل جمع السراج والمشير عبد الحكيم عامر. لم يكن المشير قد وصل الحفل بعد حين سُإل السراج هل يبدأ الحفل قبل وصول الاخير فيجيب السراج كلمه واحده: “بلشو” أي ابدأو ويختصر هذا المقطع العلاقات المتوتره بل العدائيه التي سادت بين السراج والمشير. وقد تطرق مسلسل صديق العمر المصري “بطوله باسم سمره وجمال سليمان” الى هذه العلاقه في مشهد جمعهما معا حين ما فتأ المشير يسأل ناصرا” من هو هذه السراج الذي يعطيه عبد الناصر كل هذه الاهميه؟” ويأتي جواب ناصر ضعيفا انه ولاء السراج له. هذا الولاء الذي جعل ناصرا يبسط حمايته غير المحدوده على السراج فيهربه من سجن المزه السوري ويجلبه الى مصر مقدما له الجنسيه المصريه في حين يقوم ناصر نفسه بقتل صديق عمره المشير. ويضع شارع شيكاغو الحقبه الناصريه في ميزان العداله فيسقط في الامتحان وتسقط شعارات الوحده والحريه في مهب ريح القمع الدموي الذي راح ضحيته المئات بل الالاف من خيره المفكرين والمناضلين ومنهم الشيوعي اللبناني البارز فرج الله الحلو على يد جلاديه وتذويبه بالاسيد في سوريا لرفض الحزب آنذاك حل نفسه. ونرى عده مشاهد وثائقيه لناصر في المسلسل وهو يلوح للجماهيرالسوريه التي استقبلت هذا الزعيم الأسطوري فرحه بالوحده التي تبين بسرعه انها وبالا على الشعب السوري ومقدراته ولا شك ان فشل الوحد قد ساهم في الاختلاف على ارث ناصر. وذكرني هذا المشهد بمقطع من “سأخون وطني” للكبير الراحل محد الماغوط حين يسأل الطفل جده عن ثوره 1952 وهل انها فعلا اعظم ثوره في التاريخ. ويجيب الجد بأن هذا صحيح لولا تذويب المعارضين بالاسيد ولولا ولولا وعشرات لولا تنتهي بنا الى الكفر بالثوره وبعبد الناصر.
ذكرني طرح النسيج الاجتماعي المتألف بين أطياف المجتمع من الديانات المختلفه في ذلك الوقت في شارع شيكاغو بطرح شبيه في المسلسل المصري حاره اليهود (مِنه شلبي واياد نصار وإخراج محمد جمال العدل) ودخول الاخوان على الخط لتشويه هذا النسيج بتطرفهم في حاره اليهود وبعنفهم ضد من لا يمتثل لافكارهم في شارع شيكاغو وكنت احب ان أرى بشكل أوضح اين اصبح الاخوان اليوم بعد خمسين عاما لكن العمل الذي ركز عليهم في الحقبه الأولى وهم يبحثون عن الذهب في النفق، ينشرون العنف في شارع شيكاغو، يعتدون على أصحاب المحلات والسينما والملاهي الى ان انتهى الامر بهم بحرقه.
ويبرز المخرج الفساد المستشري في المجتمع وتحالف الطبقه السياسيه والامنيه والاقتصاديه في هذا الفساد ولعل المخرج أراد الإيحاء ان هذا التحالف كان أساسا لشراره ثوره خنقت في المهد واستبدلت بنفق طويل لا مخرج منه وقد تجلت عبقريه المخرج وكتاب ورشه السيناريو بهذا العمل في معظم المشاهد وابدع فيه معظم الممثلين ومن المشاهد التي علقت في ذهني كثيرا مشاهد النفق والبحث من قبل بعض الاخوان في الستينات عن الذهب وبعكس الاخوان الذين قتلوا في النفق لم يتبين مصير الساعين وراء الحقيقه أصحاب الضمائر والايدي النقيه -يوسف وميس (نادين سلامه)-والذين دخلو النفق ولم يخرجو منه، مشاهد بنت الليل شمس وهي تخترع الحكايه تلو الحكايه عن عائلتها التي لا تعلم عنها شيئا وحاولت يعشرات القصص ان تخلق لنفسها عائله وام واب وحكايه وأصل. مشهد جده مراد عكاش، انطوانيت نجيب، تتحدي يرهان وبرهان الانسان يخرج فجأه من عباءته السوداء ليؤمن وصولها سالمه الى البيت، النجمه الشابه ريام كفارنه التي ابدعت في مشهد ساره تتحدي البوليس ومشاهد ما ألت عليه بعض الشخصيات الاساسيه بعد مرور خمسين عاما كالمريضه بالالزهايمر والتي على سرير الموت والمشهد الأخير من المسلسل ومراد يحاول الوصول الى الدير بعد ان علم من برهان ان له فيها ابنه من ميرامار وغيرها من الامثله التي لا تحصى الى جانب اختيار الأغاني الاصيله الرائعه وعدم استخدام بطلات المسلسل للمكياج بشكل عام. بقيت العديد من المشاهد مفتوحه ولا ادري اذا كان المخرج في صدد التحضير لجزء ثان والذي لا شك سينتظره الكثيرون ممن احب هذا العمل وربما اكثر ممن انتقدوه!
كاتبه وبروفيسور في العلوم السياسيه/ جامعه كوستال كارولينا-الولايات المتحده