هل الصداقات هي عائلات وأوطان بديلة في الغربة؟

النشرة الدولية –

DW – رشا حلوة –

في ظلّ أيام قاسية متواصلة، وعندما أريد أن أفكر بما يجعلها أخفّ ثقلاً على قلبي، أفكر بالصداقة، وبالأخص أفكر بصديقاتي النساء منهن، اللاتي جمعتنا الحياة في ظروف عديدة، واخترنا وقررنا – وأحياناً بلا تصريح مباشر – أن نكون صديقات.

الصداقة هي فعل اختياري؟ ممكن، ولربما هو فعل اختياري بين شخصين أو أكثر، ولها بالتأكيد أشكال عديدة. لكننا أيضاً في كثير من الأحيان احتجنا أن نتعلّم – وما زلنا – كيف نبني صداقات، وكيف نتصرّف داخلها وكيف نحافظ عليها؟ وبنفس الوقت، كيف نحمي أنفسنا من خيباتها “الشرعية”؟ كونها تقع في خانة العلاقات الإنسانية التي تتعرّض لصراعات ومشاكل وظروف قاسية قادرة على قتل “جماليتها”، والخيبة قادرة أن تحملنا إلى نزع ثقتنا بالصداقات أيضاً.

أو أننا لا نثق بالصداقات – من أصله – لأننا جئنا من بلاد، اشتغلت أنظمتها السياسية القمعية والأبوية لتفرقة الناس بشتّى الطرق، من أجل مواصلة سيطرتها، فاستغلت “حميمية” الصداقة بين الناس لإطعام مصالحها، أو مثلاً كان الصديق في أحيان كثيرة موضع شكّ وخوف، فقدت الصداقة معناها، وأصبحت شبه نادرة وصعبة لدى البعض.

يشغلني سؤال الصداقة، ويأتي هذا السؤال على شكل هذا المقال تزامناً مع “اليوم العالمي للصداقة”، والذي يصادف في الثلاثين من تمّوز/ يوليو من كل عام. لكن الصداقة تشغلني أكثر في الأيام القاسية التي نعيشها، والظروف السياسية والاجتماعية وتلك البيئية أيضاً التي تمنعنا من ممارسة حيواتنا “بشكل طبيعي”… كما أنه يشغلني السؤال في ظل لجوء قسري أو اختياري من بلادنا… فكيف نعيش الصداقة في الشتات أو بلاد اللجوء، أو فيما تُسمى الغربة؟ بعيداً عن بلادنا الأولى، التي لربما كان الأصدقاء فيها ملاجئ الأمان الوحيدة أو ممكن أنهم كانوا خيبات إضافية، جميعهم أو بعضهم.

في حديث مع مايا البوطي من سوريا، قالت: “وصلت إلى بلد اللجوء في الثلاثينات من عمري، حين تركت خلفي أصدقاءً بنيّت معهم علاقة متينة، حتى أن زوجي هو من قائمة أصدقائي الأعزاء”.

وتتابع: “أصدقائي هم من ساهموا في نجاتي من كثير من العنف والاضطهاد الذي نلمسه في بلادنا، وهم من جعلوني أصل لحالة من التوازن والقدرة على التعايش مع واقعي. هذه الصداقات أعجز عن استبدالها أو إيجاد معادل لها هنا في غربتي وهي التي جعلت من وطني مكاناً صالحاً للحياة”.

أما عبير غطّاس من لبنان، فترى أن الصداقة هي شيئاً أساسياً في الغربة، وهي ما يجعل “الغربة طيّبة”، وتتابع: “كأن وجدت بأصدقائي عائلة ثانية في الغربة، وهم يجعلون كل شيء أسهل”.

وتضيف: “بالبداية بحثت عن صداقات تشبهني، أصدقاء يتحدثون لغتي العربية، يحبون نفس الطعام والموسيقى، ولكن برلين، علمتني أن أكون انتقائية، وأن أفتح أبواباً لصداقات من ثقافات أخرى، فيها الصداقة مختلفة عما أعرفه، مشوقة أيضاً، وهذا هو ثراء الصداقات بالنسبة لي، اكتشاف لعوالم جديدة، حتّى لو لم أحبّها”.

انتقلت إلى برلين قبل ثلاث سنوات وأكثر، لأسباب عديدة، كان منها أيضاً أن أعيش في مدينة تضمّ أصدقاء وصديقات لي من بلاد عربية متنوعة. “شاءت” الحياة أن تحملنا ظروف كل منا إلى هُنا، بأساسها السياسية التي دفعت جزء مننا إلى اللجوء القسري، ودفعت آخرين إلى قرارات “اختيارية” بالرحيل، فتركنا عائلاتنا وأهلنا في بلادنا، وقسم من الأصدقاء لا يمكنه زيارة أهله منذ لحظة لجوئه من بلاده، بسبب القمع السياسي المتواصل، أو حتى السياسي والاجتماعي الذي يتجسّد في قمع النساء وقمع المثليين/ات والعابرين/ات جنسياً وكل الفئات المستضعفة.

وبالتالي، بعيداً عن عائلاتنا، أردنا أن نبني “عائلات بديلة” من خلال الأصدقاء والصديقات، وكأن أشكال الصداقات في الغربة مختلفة قليلة عما عشناه في بلادنا، لأن الصداقات هناك ليست بالضرورة أن “تعوّض عن العائلة”، مع أنه يمكن ذلك بالطبع، خاصة إن كانت العائلة هناك بمثابة مصدر خوف وليس أماناً أو حتى كخيار. لكن هُنا، فيما يُسمى الغربة، وفي غياب العائلة غالباً، نعيش حاجة أعمق لبناء عائلات بديلة من الصداقات، تشكّل ملاذنا وأماننا الوحيد، حتّى طقوسها لا ترتكز فقط على الفضاءات العامّة، فتُفتح بيوتنا وغرفنا وأسرّتنا أيضاً، لمشاركة موائد الطعام أيام المناسبات كالأعياد مثلاً، أو الأصدقاء هم من يتولون ترتيب مراسم فرح ما بين عروسين، أو هم من يمكن لنا أن نبكي على أكتافهم عند الخوف والقلق ونحضنهم على أسرّتنا وننام بأمان.

في حديث مع نور فليحان، معلّمة ومرشدة اجتماعيّة سورية مقيمة في برلين، حول موضوع الصداقة في الغربة، تطرقت بداية أن مسألة الصداقة بالنسبة لها أقل تركيباً، لأن برلين هي ليست أول تجربة غربة، لكنها مختلفة، حسب تعبيرها، فقد عاشت لسنوات طويلة في الكويت، في بيئة مختلفة ثقافياً بشكل ما حتى لو عربية، وتتابع: “لطالما شعرت أن هنالك آخر في الحياة، وهنالك شيء جميل فيه، وأعيش في برلين تفاصيل مشابهة بشكل مختلف لأنها تضعني على المحكّ مع ما أؤمن به، مسألة تقبل الآخر والتناغم بين الثقافات، وتمنحني فرص اختبار نفسي، هل أشبه ما أؤمن به؟”.

تتابع نور: “برلين هي مدينة غنية، دائماً تمنحني فرصة التعرف على أشخاص جدد للتعلّم منهم، هي رحلة ممتعة بمدينة مجنونة أسمع فيها ألف لغة. والصداقة فيها هي تعويض عن العائلة الكبيرة الممتدة التي من الصعب أن نجدها في الغربة، فالأصدقاء هنا مثل ‘دار جدي’، تضمّ الكثير وبأسماء عديدة، لكنها بنفس الوقت دائرة ضيقة وأنا حريصة بالحفاظ عليها”.

بالإضافة إلى أسئلة الصداقة والغربة، التي يعيشها الكثيرون/ات مننا هُنا، جاء هذا العامّ بعامل إضافي، ألا وهو كورونا. الفيروس وما نتج عنه من إجراءات حماية وتباعد اجتماعي، سلّط الضوء بشكل مختلف على الصداقات، أصعبها كان السؤال: “متى سأحضن أصدقائي وصديقاتي من جديد؟”… أحضن بعضهم/ن اليوم في هذه المدينة، وآخرين/ات أنتظر فرصة لقائهم/ن، لكن بالتأكيد كان السؤال تأكيداً إضافياً على أن الصداقات هي مساحات حنونة تحمينا من قسوة العالم، حتّى وإن أخاب ظننا من بعضها، لكن حتماً تأتي صداقات أخرى لتؤكد قيمتها في حياة البشر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button