صفاء الروح، لون الورق

النشرة الدولية –

خمس نجوم  – ساره العريضي –

طُرق باب البيت، فدق قلبُها لطرقه. أسرعت بعفويَّتها المعهودة تفتحه وفي القلب أملٌ وبعضُ قلق. ابتسم ساعي البريد من فوق عمره المديد، فتجمّعت خطوط العمر حول عينيه وعلى الجبين.  صبّح عليها  بالخير، فردت بأجمل منه يسبقها الى الصباح شيءُ من التعلثم.سحب الرسالة من حقيبته الجلدية العتيقة، قرّبها صوب نظّارتيه ليتأكد من الأسم، ابتسم ثانية، ثم مد يده صوبها وما يزال نصفها خلف الباب. شكّرته بطلفها المعهود وبعينيها اللتين ازدادتا بريقا لمجرد ملامسة الرسالة ، واقفلت الباب لتدلف سريعا الى غرفتها.

رمت نفسها على طرف الكرسي الصغير، وضعت المغلّف على الطاولة  ،فتحت الرِّسالة بشيء من الرفق وسرعة المتلهف لقراءة سطورها، سبقتها عيناها الى أسفل الصفحة وهي لم تكن قد قرأت بعد السطرين الأولين. عيناها تتنقلان بين الكلمات كفراشة  بين ألوان الزُّهور. كلما قرأت كلمة، تضاعفت دقات قلبها ، تبتسمُ لجملةٍ، تقطّب الحاجبين لجملة اخرى، ثم تبتسم، ثم تعيد قراءة السطر الذي سبق، حتى حفظتها عن ظهر قلب. أعادت طيّها، أدخلتها كما اخرجتها برفق مضاعف الى المغلف الورقي الأبيض، ضمّت الرسالة الى صدرها كأم تهدهد ابنها قبل أن ينام، قبّلتها، فانسابت اليها رائحة الورق، لتحملها الى عالم رحب من الذكريات والحلم.

كم سيكون الحبُّ باهتاً أو لم يكن بحبر القلب على نصاعة الورق! ثمة علاقة بين الورقة والقلم لا يعرفها الا من يمارسها. لا يوجد انسجام في هذا الكون الجميل أكثر من ذاك القائم بين الورقة والقلم، فهو الذي يحول الكون الى لوحات، والكلمات الى أدب وشعر وخطابات، والألوان الى لوحة بديعة.بين القلم والورقة قصة عشق سرمدية، تضيف الى حواسنا الخمس، حواس اخرى أكثر عمقا وصفاء، لا ندري ما اسمها، لسنا بحاجة لان نعرف، فهي مجموعة من الاحاسيس الرائعة حين نجلس خلف الطاولة نُخرج كلام القلب الى لغة الورق.

أعمق الحب الصافي الصوفي الصادق العميق الأنيق، كان بفضل القلم والورقة دون تلاقي الحبيبن. مي زيادة وجبران خليل جبران عرفا أجمل الحب دون ان يلتقيا.جسدت الرسائل حبهما الصافي الروحي اللامادي . تحول الحب بينهما الى مراسلات ثقافية وادبية وفكرية وشعرية، فاكتفيا بذاك العمق من الحب الذي يشبه سر الترقي في الحب الالهي لأهل الصوفية والعرفان.

صاغ القلم والورقة بينهما رسائل الصداقة الحقيقية. كان العالم يغلي بأجواء الأزمات والحرب العالمية حولهما، فناقض مضمون الحب على أوراقهما كل الجو المحيط. كان جبران يبدأ رسالته ب : “حضرة الأدبية الفاضلة الآنسة مي زيادة المحترمة..” لا شك انها كانت تبتسم حين تقرأ كلماته الأنيقة.

بالرسائل التي شكلت جسور الحب الصافي الأنيق العميق بينهما، تسامى الحب الى مراتب الصوفية والنقاء الروحي، تناسى أو ربما نسي فعلا الجانب المادي الدنيوي الجسدي منها. لم تكن الكلمات بينهما مجرد حروف وجمل وعبارات عابرة ،كانت تجسيدا لسحر الكون وجمال عطاء الخالق ونعيمه، ولعلها كانت قوارب نجاة لكل منهما للخروج من قسوة الحياة.

هكذا تخيلتُهُما وأنا أمسك بقلمي لأكتب لكم على صفحتي البيضاء في هذا الزمن الكوروني والمأساوي الذي يحيط بنا شيئا يعيدنا الى صفاء الكون ونقاوة المشاعر الصادقة. كل شيء يتغير حولنا الا المشاعر النبيلة وقصة العشق بين القلم والورقة. مهما اعتدت التكنولوجيا على صفاء العلاقة بينهما، فهما الثابتان وهي المتحولة.

هكذا تخيلتُ مي زيادة تفتح الباب لساعي البريد وهي مدركة ان الرسالة قادمة من جبران، ليست مدركة تماما في الواقع، لذلك كان يحدوها بعض القلق. وتخيلتُ الأديب الكبير في غربته جالسا خلف طاولة خشبية، على كرس خشبي، مُمسكا قلمه، ينظر من نافذة غرفته تارة، والى البعيد تارة اخرى، ثم يرفع رأسه صوب سقف الغرفة، يفكر بماذا يستهل رسالته.

هو حتما لم يكن يعرف قبل ان يكتب. او هكذا انا تخيلته. فالقلم والورقة يساعدانه حتما على تحويل خلايا القلب الى كلمات من حب ومحبة ونور. لعلّه كان مثلها يدق قلبه حين يسمع طرق ساعي البريد على الباب

كانت الرسائل بينهما تتسلل الى  قلبيهما قبل عقليهما فتنسّق موسيقى القلوب وترفع القلب والعقل الى ما فوق حدود الإبداع . كانت الكلمات  بمثابة البلسم والدواء لقلبيهما العطشين لسر الحياة. كانت الكلمات حيَّة  تتحرك على الورق كما الوريد فوق القلب فتضخ فيهما رونق الكلمات وجميل الأدب والشعر وعميق الحب. فكيف لا تجسد مي زيادة في أول نصوصها  كل وأجمل ما تختزنه المرأة من مشاعر صافية.

 

أكتب عنهما الآن، وانا جالسةٌ في غرفتي، أسمع رنين بعض الرسائل الصوتية على الواتساب. أشعر بخواء الروح كلما تقدّمت التكنولوجيا خطوة باتجاهنا، أخالنا آخر جيل قد يعرف ماذا تعني العلاقة الرائعة بين القلم والورقة. احاول أن التقط الحروف، حرفا حرفا على الورقة أمامي، اخشى عليها ان تضيع  .

اتخيل ذاك الزمن الجميل، زمن جبران ومي ، ينظر  إلينا  بإستهزاء وشفقة،

نعم نحن واكبنا التطوُّر، َوأعَدمنا التَّواصل بالرَّسائل الورقية،وإستبدلناها بأوهام التّواصل الاجتماعيّ. نعم، أصبحنا نقرأ رسالة من صديق على مواقع التَّواصل كما نقرأ حدثاً  أو مشهداً  سياسياً عابرا. ما عدنا نشعر بالكلمة، نهتم بالأشكال والصفات الظاهرة والمسائل الزائلة.

نحن نحكم على أرواحنا بالزوال وعلى عمق مشاعرنا بالاضمحلال، نفقد لهفة الانتظار، وسحر ترتيب الكلمات على الورقة. نختصر الكلمات كي تناسب الواتساب وتويتر وفايسبوك وانستاغرام وغيرها، نستعجل الخلاص من الجملة كأنها حمل ثقيل فوق اكتافنا. نريد كل شيء بسرعة البرق، فننسى حواسنا، ونكدس الكلمات بلغات متعددة فوق الكلمات، نحاول ان نخترع لها روحا،لكنها تموت فور ولادتها.

الكلام المكدَّس على الهواتف ووسائل التواصل الاجتماعي مصيره الزّوال والفناء ، ومصير الرَّسالة المكتوبة بشغاف القلب الخلود والبقاء.   لحسن حظنا ان عصر جبران ومي كان يقدّس الاقلام والورق… فوصلنا منهما سرّ الحب الصافي.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى