باريس تنتظر سياسيي لبنان في.. طرابلس!* فارس خشّان
النشرة الدولية –
شغّل البيان الذي أصدره قصر الإليزيه، إثر المحادثة الهاتفية بين الرئيسين الأميركي والفرنسي جو بايدن وإيمانويل ماكرون، الخيال السياسي اللبناني، ذلك أنّ البيان الفرنسي، وخلافاً للبيان الأميركي، ذكر أنّ الرئيسين اتفقا على التعاون في ملفات عدة من بينها الملف اللبناني.
وحمّل البعض هذه الإشارة الفرنسية الى لبنان أكثر ممّا يمكن أن تحمله، فذهب بعضهم إلى الحديث عن إحياء عاجل للمبادرة الفرنسية، في ضوء “معطيات جديدة” قالوا إنّ “التغيير الجذري” في الإدارة الأميركية قد وفّرها.
ولكن، ما هو واقع الحال؟
المعلومات المستقاة من مصادر فرنسية متقاطعة تبيّن أن أمور لبنان لا تزال عالقة عند التعقيدات التي سبق لها أن “حنّطت” المبادرة الفرنسية، فلا ماكرون “المهووس” بتأثيرات جائحة كوفيد-19 على بلاده يملك القدرة على تذليلها، ولا بايدن المثقل بالتحديات الداخلية يفكّر بإعطاء لبنان يوماً واحداً من المائة اليوم الأولى “ليتوسّط بين الرئيس سعد الحريري والنائب جبران باسيل”.
وتشير المعلومات الى أنّ ماكرون الذي “لن يتخلّى عن لبنان” ينتظر أن تعي القيادات اللبنانية مسؤولياتها، حتى يتحرّك لإنقاذ ما لا يزال ممكناً إنقاذه، فهو، بالنتيجة، رعى “اتفاقاً” بين هذه القيادات، ولكنّها، سرعان ما أخلّت به، وتالياً، فهو عالق عند هذه النقطة، إذ يرى أنّ على من أخلّ بالاتفاق أن يعود الى ما سبق أن التزم به.
وتؤكد المرجعيات الفرنسية المهتمة بالملف اللبناني أنّ باريس التي لن تلجأ إلى “سياسة العقوبات” تترك للشعب اللبناني، بعدما فضح ماكرون، في مؤتمر صحفي، طبقته السياسية ووسمها بأبشع الصفات، أن يحاسبها ويضغط عليها، حتى تقوم بما يجب عليها القيام به، حتى يسمح للمبادرة الفرنسية بأن تفي بما وعدت به.
وتكشف أنّه لم تعد توجد دولة واحدة في العالم مهتمة بلبنان، بسبب سلوك سياسييه، وهذا ما تلمّسته باريس عن كثب في الاتصالات التي أجرتها وشملت الدول التي يمكنها إن شاءت مساعدة لبنان، وتلفت في هذا السياق، وعلى سبيل المثال لا الحصر، إلى ما قاله ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان لماكرون، في آخر محادثة هاتفية بينهما، ذلك أنه عندما طلب الرئيس الفرنسي من بن سلمان التدخّل، أجابه ولي العهد السعودي:” لقد طفح الكيل من سياسيي لبنان”.
وفي فرنسا نفسها، إذا جرى استثناء خلية الإليزيه الدبلوماسية التي يترأسها إيمانويل بون ويعاونه في الملف اللبناني باتريك دوريل، يظهر أنّ معادلة “طفح الكيل من سياسيي لبنان” تنتشر في كثير من أروقة القرار، وفي مقدمها وزارة الخارجية التي سبق أن شبّه حامل حقيبتها جان إيف لودريان لبنان بسفينة “تايتانيك” التي تغرق من دون فرقة موسيقية.
والتشخيص الفرنسي لواقع لبنان خطر جداً، لأنّه في مقابل “ملل” الدول التي تريد الخير للبنان، تنشط الدول التي تُطلق عليها باريس صفة “المفسدة”، كما أنّه، في مقابل، “صراع الأحجام” لدى الطبقة السياسية، يتفاعل الغضب في الشارع عموماً، ولدى هؤلاء الذين ليس لديهم ما يخسرونه.
وهذا التشخيص يعني أنّ لبنان يواجه مخاطر فوضى حقيقية من شأنها استدراج القوى الأمنية على اختلافها، في ظل الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي، إلى أخطر أنواع… لا اكتراث.
وعليه، لا تجد الرئاسة الفرنسية مبرّراً، في الظروف السياسية اللبنانية الراهنة، لإرسال موفد رئاسي الى لبنان ولا لاستقبال أي مسؤول لبناني.
وتقول المصادر إنّ الرئيس سعد الحريري “مرحب به دائماً في باريس، ولكن عليه أن يحمل إلينا معطيات جديدة، لأنّ الرئيس ماكرون يعتبر أنّ مهمته لا تقوم على تكرار ما سبق أن قاله موفده إلى بيروت المستشار باتريك دوريل”.
والجديد المطلوب، بحسب باريس، أن يتوصّل إلى تفاهم يمكنه أن يسمح بتشكيل حكومة قادرة على إنقاذ لبنان ممّا يتخبّط به.
ولا تجد الشكوى التي يرددها محيط الحريري من “العراقيل” التي يضعها رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل آذاناً مصغية في باريس، انطلاقا من أنّه في ضوء المعطيات اللبنانية هناك “قواعد” لتشكيل الحكومة، وكان على الحريري وغيره أن يتنبّهوا لها، عندما أهملوا كل التحذيرات، وعقدوا اتفاقاً أوصل عون وباسيل وخلفهما “حزب الله” إلى رئاسة الجمهورية اللبنانية.
ماذا يعني كل ذلك؟
إنّ المبادرة الفرنسية، ولو كانت تهدف، بالنتيجة، إلى منع انزلاق لبنان إلى الجحيم، إلّا أنّها، في مندرجاتها، كانت تهدف الى إنقاذ الطبقة السياسية من غضب الشارع.
في الأصل، أتت هذه المبادرة، في ضوء انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس 2020، وفي ظل المخاوف من الهزّات الارتدادية لثورة 17 أكتوبر 2019 التي رفعت شعار “كلّن يعني كلّن”.
وكان يمكن لنجاح هذه المبادرة التي عهد أمر تنفيذها إلى “كلن يعني كلّن” أن ينقذ العباد والطبقة السياسية في آن.
ولكن إحباط هذه المبادرة، وعودة الطبقة السياسية إلى صراعاتها، وسط ثبوت عجزها عن فتح أي نافذة أمل، من شأنه أن يُسقط الشارع اللبناني في الغضب العنفي ممّا يتيح لأي “قوة خبيثة” المجال لاستغلاله وتوجيهه.
وإذا كانت باريس المصرّة على مبادرتها تنتظر بروز عوامل جديدة ضاغطة تعينها على التحرك من جديد، فهي قد تجد في العنف الذي يميّز عودة الشارع اللبناني إلى الغليان، ضالتها، لأنّه قد يبث الرعب في نفوس الطبقة السياسية التي عليها أن تخشى على مشروعيتها وشرعيتها في آن.
إنّ ما تشهده مدينة طرابلس يفترض أن يكون جرس الإنذار، لأنّه، مهما كانت طبيعته ومهما قيل عن خلفياته، فهو نتاج مباشر لأعمال طبقة سياسية أنانية، عاجزة، فاشلة، فاسدة، وغير مبالية بفقر الناس وجوعهم ووجعهم ويأسهم.
إنّ من يستمع إلى المعنيين بالملف اللبناني في باريس يدرك أنّ هؤلاء لم يعد أمامهم سوى انتظار الطبقة السياسية اللبنانية على ضفاف نهر السين، بعد أن تقذفها أمواج.. طرابلس.