رحيل البراءة ومن حكاوى الرحيل – الحكاية الثامنة* د. سمير محمد ايوب
النشرة الدولية –
الحياة دون حب يا جدي، عاصفةٌ مُغْبَرّةٌ. جِئْتُكَ وأنا أجري حثيثاً، إلى مُستَقَرٍ لي في عوالِمِه. أوصِني يا شيخنا وخُذ بِيَدي، فأنا في لُجَجِهِ أكاد أغرق.
أجلستُ حفيدي قبالتي، على كرسيٍّ من قَشٍّ، في صحن بيتنا القابع على كتف أحراش ماحص والفحيص في عمان، حيث كنت أجلس وحيدا أرْقُبُ شمسا تغرب، وعصافيراً تندسُّ بصخبٍ في ثنايا شجرة الكينا قبالتي. تأملت مليا جمال عينيه، وقد حفَّ شاربيه، وأطلق لحيته على سجيتها، كما كان قد فعل جيفارا. فأدركت ان الله سبحانه، قد رزق حفيدي بِحبِّه الأول فيما أظن.
فقلت وأنا أشيح عيني عن عينيه الحيِيَّتَين: يا ولدي، إن أحسنت فإن شمسَ الحُبِّ ظليلة، ومِهادَه ذليلة. لا يحجب نوره غِربال الحياء. وليس للقلوب السليمة عليه سلطان.
توقفتُ قليلا وأنا أتبصر في وجهه الذي يذكرني بولدي أبيه، وهو في مثل سنه وحاله. إبتسمت وتابعت: تذكّر يا ولدي، أن الحب ضرورةٌ فطريةٌ، لا تموتُ وإنْ غفَت. وأنه حاجةٌ لا تحجج. غزو وليس احتلالا. ومع هذا، لا تتعجله فهو موجود متى أردت. ليس شرطا أن ترى خطواته وهو يسعى إليك في الخفاء. أوصيك قبل أن تبحث عن أنوثة عفوية، أن تبحث أولا في نفسك عن رجولة حقيقية. ففي الحب الحق، لا تحسب نوايا الخطوات بل تبعات التصرفات.
أبصرت حيرةً تتسلل إلى وجهه الجميل، فسألته أن يقترب. أمسكت براحتية بين أصابعي ومن ثم تابعت: وأنت تُلامسُ إحساسها، كُنْ حذرا يا ولدي، كما لو أنك تجوس حقل ألغام. إياك وإرتكاب حماقة الغياب. وعليك أن تُجيد معها ولَها، فنون الأنتظار والصبرالجميل. إياك أن تجعل من قلبها فندقا. فالنساء لا يُحبِبن مقابر الحب، ولا غرف العناية الحثيثة، أو ثلاجات التبريد.
أطرق حفيدي للحظاتٍ، رفع بعدها رأسا ضاقت عيناه، فسارعت أقول وأنا أفْلِتُ راحتيه: وليتك تعلم يا ولدي، أن الأيام تُغير كلَّ شيء، حتى معايير الجَمالِ والمشاعر، لا معالم الأرض فقط، وأن كلّ شيءٍ يميلُ للتوقف أو للتباطؤ. لذا لتجدّد رونق كلّ شيءٍ، وتُبقيه حيّا ونبضه طازجا، لا تبالي بغضبك. وإن تَمَنَّعَتْ، إمتلك أصابعا موهوبة، كأصابع عازف بيانو ماهرٍ أو قانونٍ مُبدع. ولِتُفرحَها، إجعل لأشْواقكَ أقداما قوية، تسعى إليها بها.
بَهَتَ حفيدي الشاب، أناخ رأسه على كف يده اليمنى، وعلّقَ بصرَه بشفتيّ، مشدوها يتمتم بما لم أفهم.
أكملتُ مُشفقاً بحب: لا تعجب يا فتى، فجميل الحب مُمتعٌ. إذا ما إتّسع لشريكيه، يُصيبهم بَلَلُهُ وَطَلَلُه، وإن إرتطم بشيء من توابل العيش المشترك ونكهاته.
ولكن ، إحذر وإياك أن تغفل، عن أنّ طُرُق الحبّ طويلة ممتدة ، شاقة متشعبة، وأنّ مواصلة السير فيها حتمية، مهما نبتت على حواف مضاميرها أشواك, فالتوقف في المنتصف أو دونه أو بعده، موت زؤام مُحتم.
وهو يداعب شعره المَنفوش، تمتم محاولا قول شيء يشي بحيرته، خلته يقول بصوت عميق: ولكن…!!! ولم يُكْمِل.
دون أن ألتفت مطولا إليه، أكملتُ قائلا: نعم ، قد تغشاه بقعٌ مُحزنة موجعة، جراء محاصرته في ضرورات تصريف الأعمال، وخدمة العلم، والمَواسمية. لذا عليك أن تتذكر دائما، أنّ حبَّ الحقوق أعمى وأنَّ حبّ الواجبات أعمى هو الآخر.
تهلّلت أساريرحفيدي. وإبتسمت عيناه، وهي تضيق على اتساعهما، وتراقصت رموشه الطويلة وحواجبه الكثيفة ، وهو يحدق في وجهي برجاء وحنانٍ يافع.
وقفت، فانتصب قبالتي، أكملت وأنا أمسك بكتفيه، وأُدْنيهِ من صدري: الحب يا ولدي، مشاركة نشطة مستدامة. تقتضي توازنا في الحقوق والواجبات. منه تبدأ كل النسائم والرياح والزوابع. في لججه وفي ثناياه قوس قزح، وتلاوين طاووس.
لِتجعلها محظوظة ًبك، إتقن كلّ أبجديات الحب وتفنن بها، كلّما دقَّ قلبُها،أو رمَشت عيناها. جِئها لوْ نادتك إليها، وإجعل مجيئك طرفةَ عين. ولتكن روحك مشبعة بها، وبفرحها وبحَزَنِها وحُزْنهِا، أكثرَ من تضاريس جسدها.
ولتغزوها، لست بحاجة لاستئذان. كن شيئا يَخُصها وقتما تشاء. خُذها معك في كل الدروب. وأنت توشوشها: أحبك، بالكيفية التي بها تشاءان.