طرابلس ليست محتاجة. لماذا وكيف؟* فيرا يمين
النشرة الدولية –
طرابلس كفرت بنا جميعا وكلّنا أشبعناها كلاما وأفرغنا بطون أبنائها وقاطنيها والنازحين إلى حضنها كونها “أمّ الفقير”، طرابلس اليوم لا تستجدي حصّة وزارية وقد كان لها حصّة الأسد، ولا منصب رئاسة حكومة ولا مقاعد، هي تطلب حقها، وحقها علينا جميعا أن ننصفها أرضا ومرفأ ومعرضا ومطارا ومحطة قطار ومحطة قطار ومحطة تكرير وقلعة وأسواقا وخانات وهندسة معمارية وتراثا وآثارا.
طرابلس غنية فلماذا نسرق دنانيرها وذهبها ونسلبها طرقها، ونتمترس بها فنزفّها حينا عروسا ونصوّرها أحيانا كابوسا.
وإذا أردنا إنصافها ادعاء نتهّم قاطنيها من غير الطرابلسيين بما يشبه التذاكي حدّ التغابي. العاصمة تحضن ولا تقفل، العاصمة تتسع ولا ترذل.
كيف وطرابلس عاصمة لبنان الثانية وعاصمة الشمال وفيحاء الوطن وبوّابته التجارية إلى سوريا بحرا وبرّا وهذا واقع تاريخّي، ومدينة العروبة التي تتلمذنا جميعنا على مقاعد العمر فيها، في مقاهيها وندواتها ومحاضراتها وصالوناتها الثقافية ورابطتها وجامعاتها ونسيجها الاجتماعي المتنوّع طوائف ومذاهب ومعتقدات وأحزابا وانتماءات. وإذا لم تكن كذلك فإنها تفقد هوّيتها المحصّنة بالقلاع ما يمنحها صلابة، والمطلّة على المتوسّط ما يهبها مرونة وبين الحالتين طرابلس تدرّس التاريخ وتحفظه من أميّة قد يسعى إليها البعض.
ومن جهة أخرى ما كان للنزوح إليها سبب لو أن “الدولة”- وعذرا على كلمة دولة- كانت حققت الإنماء المتوازن ولم تخذل الضيع والأرياف فتبور الأرض ويكسد الزرع ويتفشّى الفقر ويعيث الجهل، فيهرب التائقون إلى حياة كريمة إلى المدينة- الأم.
وهذه الأمّ كانت لترضع جميع أولادها لو درّت الدولة عليها حقوقها فتنشّط المرفأ من غير أن يثير حفيظة حقوق الطوائف بل تحفظ حقّ المواطن. ومرفأ طرابلس هو المرفأ الثاني بعد مرفأ بيروت وتبلغ مساحته الإجمالية حوالي ثلاثة ملايين متر مربع. مليونان ومئتا ألف متر مربع للمساحة المائية ويستقبل المرفأ سنويّا أكثر من ٤٥٠ سفينة وكانت المدينة موعودة بتوسعته مع أرصفة ومنطقة حرّة ومساحات تخزينية. والمرفأ كما غيره مرهون بالوعود الانتخابية أو مقرون بالخطابات الطائفية أو مرتبط بالمفاصل السياسية، إلى معرض رشيد كرامي الدولي الذي وضع حجر الأساس له في الخمسينات والغاية منه معرض عام دوليّ تشترك فيه الدول أو الشركات المحلية والعربية والعالمية لتنشيط الاقتصاد والتجارة وعلى حجّتهما السياحة وكان من المفروض افتتاحه سنة ١٩٧٦ بعد الاستعانة بمهندسين من البرازيل إلى بلجيكا إلاّ أنّ الحرب حالت دون ذلك. وبعد انتهاء الحرب التي كانت طرابلس بوعيها السياسيّ مع زغرتا أول الخارجين منها، وبعد الحرب وصولا إلى الطائف وما تلاه وطرابلس موعودة بمعرضها في معرض كلّ حديث أو مجلس أو ديوان بالرغم من حفلات الافتتاح والتعديلات على المداخل والمخارج.
وغرف الاستقبال والترحيب والوداع والتشجير والحفر والريّ وبناء الفندق والمسرح والمرآب، غير أن المعرض كان ليكون قبلة التجارة وملقى للمؤتمرات وشريانا حيويّا يضخّ فرص عمل ويجذب استثمارات لكن طرابلس محرومة.
إلى محطة القطار التي انطلقت في ١٨١١ أي قبل الحرب العالمية الأولى وربط خط الحديد بينها وبين حمص في سوريا وهي قبل محطة بيروت بسبعة وثمانين سنة. وهذه المحطة دمّرت في الحرب العالمية الأولى وأمّمت بعدها، وبعد التدمير والتأميم لا تزال جاثمة لليوم بانتظار الترميم وكانت لتغرق في العشب الدالف إليها لولا لجنة التراث والآثار في طرابلس التي أقاموا فيها بعض الاحتفالات لإلقاء الضوء عليها.
إلى أسواق طرابلس التي يعود عمرها إلى ألف ومئة عام توالت عليه الحضارات تاركة بصمات وفيها سوق الصاغة وسوق العطّارين وسوق النحّاسين والبازركان وفي هذه الأسواق التراثية والشعبية تدرك أنك في المدينة التي يحتضنها التاريخ وتحتضن الحاضر فلا تترك فقيرا من غير رغيف أو “بريوش” ولا طفلا من غير حبّة “بونبون” مقلّمة بالأبيض والأحمر ولا حرمت صغيرا من ثوب العيد أو حذاء الميلاد أو شمعة الشعانين.
وكان لأهل زغرتا التي تبعد عن طرابلس تسعة كيلومترات أي رفّة طير، عدد يسير من المحلاّت خصوصا الحرفي منها، كما لأهل الكورة أو الجبّة أو غيرها ما يعني أن طرابلس لم تكن يوما إلا حاضنة وهذا دورها بل هذه طبيعتها.
ومعلوم أن طرابلس تتفرّد وحدها خارج بيروت بأنّ لديها والشمال نقابة للمحامين ونقابة للأطبّاء ونقابة للمهندسين.
فلماذا هي اليوم المدينة التي تتقدم مدن المتوسط بنسبة الفقر والعوز والبطالة، لماذا وهي غنية بمرافقها وناسها وأهل الاختصاص وغرفها ومشاريعها لماذا؟ ما المرسوم لها؟ هل هي ضحية مؤامرة؟ هل هي ضحية مناورة؟ هل هي ضحية استغلال؟ هل هي ضحية مكابرة؟ هل هي ضحية جهل؟ لماذا تدفع الثمن وبات أهلها من غير جيوب؟ طرابلس عليها أن تنتفض لتاريخها، تعيد التعريف عن نفسها، كثيرون يرجمونها وكلّهم أهل خطيئة، وكثيرون يتغنّون بها حسب التوقيت ومعظمهم يجهلها بل وكان يحاذر للأمس أن يزورها، والبعض يتفاجأ بها حين يرى عن قرب جمالها.
أشفق عليهم جميعا لكن الشفقة لا توازي حزنا على مدينة “ربّت وما لقيت”، على مدينة ضاعت وأضاعت، على مدينة أشتاقها، على مدينة تدفع ثمن الخطابات الطائفية والمذهبية والعنصرية.
طرابلس لا تحيا الّا بمشاريعها، ولا تُرسم الّا بمائها، ولا تُحصّن الّا بتاريخها، لقمتها في ما تكتنزه أرضها من مشاريع تجارية وصناعية وحرفية واستيراد وتصدير وهي بالتالي لا تستجدي ولا تحتاج. كلّ ما تطلبه وتطالب به حقها وصاحبة الحق طرابلس سلطانة المدن وياقوتة المتوسط ومدينة الاختلاف هي التي يتوسّطها “شارع الكنائس” الذي يختزل تاريخ المدينة القديم والحديث وفيه تنوّع ديموغرافي مسيحي وإسلامي ولو أنه عدديا طرأ عليه تعديل كبير بفعل الأزمات والحروب وتبدّل الخطابات التي تبدّلت مقاييسها من وطنية إلى طائفية أو شخصية أو مصلحية.
وهذا الجوّ المقيت وإن وفّق من النيل نسبياً من المدينة لكنه أبداً لن يقضي عليها كلّياً -أو على الأقل هذا ما نأمله- لأن طرابلس في كلّ حين تستعيد بعضاً من عافيتها وقد تستعيدها كاملة حين تنتصر للقمتها.