إصدار جديد للكاتبة نتالي غريب… عيادة نفسية متنقلة في “الطريق الرابع”
النشرة الدولية –
تجمع الكاتبة اللبنانية ناتالي الخوري غريب، العديد من الاتجاهات الفلسفية المتشابكة مع الواقع، من جانب، والخيال العلمي من جانب آخر، في روايتها ”الطريق الرابع“ الصادرة عن دار نينوي 2021.
أحداث الرواية تدور حول مجموعة من الأصدقاء المختلفين في الاتجاهات الفكرية في الحياة، لكن ما يجمعهم هو دافع البحث عن الناقص في الحياة لتكتمل دائرتها. فعلى طريقة العيادة النفسية، حيث البوح وطرح الأسئلة العالقة في الذهن، وما يؤرق مسيرة الإنسان، تنطلق رحلة استكشاف المضمون الحيوي للمرء. وتحقق الروائية هذا القصد من خلال اعتمادها على الشكل الحواري المكثف في الرواية، ومن خلاله تطرح العديد من الرؤى الحيادية حول العالم، مستفيدة من الأصوات الفلسفية المتعددة في تاريخ الإنسانية.
الشخصيات الست الذين شكلتهم الكاتبة والمنخرطون في تدريب لفهم الذات وتفسير الترابط بين الإنسان والطبيعة، وكذلك التناقضات ولحظات انفكاك المرء عن العالم، تبدو رحلتهم ما يشبه عملا بحثيا للوصول لمعنى حقيقي أو تقريبي للإنسان والحياة. وتتعزز هذه الرحلة الفلسفية من خلال إضفاء الكاتبة المزيد على زخم الحوار، بصقل أكثر من بعد مكاني في الحوارات، وتكلل ذلك بتعددية الأماكن التي احتضنت هذه المحاولة، ما بين لبنان وكرواتيا ونيبال، وأخيرا فرنسا.
في جانب توزيع الكتل في الرواية، تبدو كتلة السرد خفيفة في العمل، حيث تطفو على السطح بالنسبة لكتلة الحوار. واعتمدت الكاتبة على مشهد سردي تقديمي في كل مرة، ومن ثم يكون الحوار هو الكتلة الأعظم، بما يشتمله من لغة شعرية مائلة للتكثيف، ومشبعة بالرؤى الفلسفية، وإصدار المراسيم، كقناعات نحو الحياة.
لذا فقد غاب صوت الحركة المؤثرة في السياق السردي، وكانت كثيرة القصص المسرودة عن الماضي، المتعلقة بكل شخصية، وهو أمر مهم لفهم تاريخ الشخصيات، لكن الحدث الحاضر كان مقتصرا على الحوار والسفر.
كما يتجسد الصراع الميلودرامي والفلسفي في سياق الحوارات الكثيرة بين المجموعة، دون أن تضع الكاتبة دلوها في هذا، متبعة سياق الحيادية التامة في سرد المشاهد، ومعتمدة على راوٍ ناقل لما يدور تحت عدستها المتنقلة، وقد صاغت ذلك في سبعة فصول، ممتدة على 143 صفحة من القطع المتوسط.
الشخصيات التي كان معظمها في طور الأربعين من العمر، كانت تائهة محملة بالخيبة والخذلان والصوت الصارخ من ثقل أسئلة الوجود، والأمنيات المفقودة تباعا. وكان أبرزهم آدم، طبيب الهندسة الجينية، الذي عاش طفولته يتيما مشوه الوجه، وامتلأ بعقدة النقص، مهما عززت الحياة فيما بعد من حضوره، فقد أتم تجميل وجهه المحروق، وتفوق في مجال الهندسة الوراثية، لكنه ما يزال يفقد تلك الروح المتعادلة مع الحياة، حيث تكتب الروائية على لسانه: ”من عاش يتيما، يعرف ماذا يعني ألا يكون لك أم تحميك، وتسامحك حين تخطئ، عشرين مرة في اليوم. من عاش يتيما يعرف ماذا يعني ألا يكون لك أب تهدد به من يحاول أن يتعالى عليك“.
آدم، الشخصية الطموحة المحملة بأفكار تطور النسل الإنساني، أدخلت الكاتبة من خلاله أطروحات متعددة للخيال العلمي، تخص قدرة الإنسان على التكاثر مستقبلا بأساليب مختلفة عما يدور الآن، لكن الكاتبة تعمد أن تجعل من هذه الشخصية مثار جدل بإماتتها في نهاية المطاف، كإيحاء حول ضعف العلم، مهما تعظم، أمام حدث طارئ للإنسان، كعضة كلب، تلك التي قتلت آدم الباحث الفذ. وعلى نفس المنوال، فيروس كورونا وما أحدثه في العالم، مطلع 2020.
أما نادرين، فتمثل في الرواية الاختلاط الغريب بين التفوق في الفكر، من خلال عملها كمعلمة فلسفة، وبين الهشاشة المفرطة في الحب، حيث تفقد مع آدم قدرتها على الاحتفاظ بالخطوط الواسعة حول شخصيتها، وتنقلب أحاسيسها تجاهه إلى حيرة وخيبة وتيه.
كبعد اجتماعي، تذهب الرواية إلى تعزيز ميل الإنسان نحو التشارك الاجتماعي، وحذف الطقوس القاسية على المرء مثل الوحدة والعزلة والاكتئاب، كما تعزز إحساس المرء بالأمان من خلال الدخول في دائرة الجماعة، وتبادل الكرات مع الآخرين، بلهجة اللعب مع الحياة.
من أجواء الرواية: ”لقد بدأت أعتاد وجود أفراد الشلة في حياتي، على الرغم من أن كلا منا له هواجسه الخاصة، لكني أشعر بأننا نتكلم لغة واحدة، لغة الإصرار على إيجاد ما نبحث عنه. كلنا نبحث عن شيء لم نجده، ولكن، هل نعرف حقا عما نبحث؟!“.
حسام معروف