الفن الرائي ينتصر للكارثة قبل وقوعها وغداتها

النشرة الدولية –

العرب – ميموزا العراوي –

مرّ أزيد من عام حتى الآن على بروز فايروس كوفيد – 19 الذي كان كفيلا بأن يحفر”تيجانه” الحادة في البشريّ، ويستحوذ إما على فلذات كبده وإما على أحباب قلبه. إنه فايروس “فلسفي” لا بل ميتافيزيقي بكل ما تعني هاتان الكلمتان من معنى.

استطاع هذا الفايروس وموكبه الطنان، أي الوباء وانتشاره، وإن لم يتمكن من الوصول إلى خطف كل الأحباء أو تعذيبهم، فقد استطاع، أقلّه، النفاذ عميقا إلى حد انتزاع من كل بشريّ، على هذه الأرض الفانية، أنّات تصاعدت وتيرتها وأبعادها المفهومية في زمن كلُّ شيء فيه أصبح عُرضة للتغير ولإعادة التعريف والتشكيل.

هنا وفي هذا السياق بالتحديد برزت لوحات تشكيلية أعادت “تصوير” الإنسان بملامح جديدة استنبطتها من عمق المأساة البشرية، وقد بلغت حدا كبيرا من النضج.

بدت تلك المأساة الإنسانية بنسختها الجديدة حاملة لأبعاد متناقضة تأرجحت ما بين الإدانة والشفقة. ويكاد كل ما ذكرناه آنفا يكون وصفا لأعمال الفنانين العراقي سيروان بران والسوري عبيدة فياض رغم اختلاف الأسلوب الفني لديهما، ومع ذلك يجمع بينهما، وإن بدرجات مختلفة من النضوج وقوة التعبير، التظهير الفاضح والمُرعب لملامح بشرية تخلت عن أقنعتها الواقية من الوباء بطريقة غرائبية لتكونه، أي لتكون الوباء… الوباء باعتدائه والوباء بمؤشراته والوباء بنتائجه.

وكعادته كان الفن التشكيلي ليس مجرد انعكاس لما يحصل على أرض الواقع بل هو الرائي في تبصّراته حتى قبل أن تحدث المُستجدات. والكل يعرف أن الكثير من الأعمال الفنية السابقة والحاضرة التي لطالما وُصفت بأنها “ميلودرامية” أو “كئيبة” انتصرت اليوم.

واسترجعت حقها منّا وبات أقل ما يمكن القول عنها إنها أعمال واقعية رسمها فنانون نافذون إلى معنى الحدث، وإلى قلب الكائن “المُفترض” أن يكون بشريا/ إنسانيا وشفافا على النحو الذي رسمه سابقا الفنان التشكيلي السوري الراحل لؤي كيالي.

بات الكثيرون ينظرون إلى تلك اللوحات التي يمكن اعتبارها مخيفة بطريقة مختلفة، ولنقل بنظرة أكثر واقعية واعترافا ببلاغتها، وإن كان جزء من هذه البلاغة كآبة كبيرة.

يواجه الكثيرون حقيقة هذه الأعمال بتقبّل جديد، لأنها تُصوّر البشريّ بصدق وتعكس باطن ملامحه الحقيقية، أو لأنها ظهّرت بكل جرأة “عدوا” يتآكل من داخله ويستحق الشفقة ولا يمكن أو لا يجب إخراجه، أو محاولة إخراجه من أرض البشر، لأنه أصبح يشبهها وتشبهه، وتنتمي إليه بقدر ما ينتمي إليها.

سيروان بران هو اللوحة في انتظار فاجعة آتية لا محالة سيروان بران هو اللوحة في انتظار فاجعة آتية لا محالة

لم يرسم بران وفياض مسوخا، بل رسما بشرا من هذا العصر من نوعين ولهم نوع ثالث: إما هم بشر/ جثث حيّة وقتلة أحلّوا سفك دماء القيم الإنسانية كما في العديد من لوحات سيروان بران، وإما ضحايا الوباء بمعناه المُطلق الفيزيائي والميتافيزيقي مع اختلاف درجات “الإصابة” من فرد إلى فرد كما في معظم لوحات عبيدة فياض الأخيرة.

ولوحات فياض هي لوحات وجودية/ مأساوية بامتياز أصبح فيها القناع الواقي من الوباء من ناحية جزءا لا يتجزأ من ملامح الشخوص، ومن ناحية أخرى جعل من “عملية الوقاية”، عملية واهية، إذ من المُمكن جدا أن يصيب فيها الشخص “غير المُصاب”، والمهترئ وجدانيا وأخلاقيا، بشرا آخرين.

ويبقى النوع الثالث الحاضر في لوحات الفنانين على السواء وهو قطعا وفي أشد وضوحه: الشخص المجرم الذي هو الضحية في آن. وفوق كل ذلك، والأهم من كل ما سبق، هو أنه ليس مطلوبا من أحد “شفاء” أو محاسبة هذا الكائن، ببساطة لأنه كائن “طبيعي” جدا.

وقد نشر بران مؤخرا لوحة له طغى عليها اللون الأحمر القاني والمُتخثّر في مواضع منها كما يتخثّر الدم في الجراح العميقة، هي أكبر مثال على هذا النوع الثالث من اللوحات. لوحة ربما هي من أكثر لوحاته إفصاحا عن التسلّخ البشري بكل صوره، فهو القاتل وهو الضحية حدّ الاتحاد.

يبقى أن نسأل: كيف يمكن لهذين الفنانين أن يكون عالمهما مسكونا بتلك المخلوقات “الواقعية” من هذا الزمن ومن الزمن الآتي، ولا يكون عيشهما مُكدّرا بالكوابيس؟ ربما هو كذلك، ولكنه مصقول بحكمة ما، تمكنهما من تقبّل ما لا يُمكن تقبّله لا وجدانيا ولا عقليا.

والفنان سيروان بران من مواليد بغداد 1968، حاصل على بكالوريوس الفنون الجميلة من جامعة بابل، وهو عضو في نقابة الفنانين العراقيين، وعضو اللجنة الوطنية للفنون التشكيلية.

أقام بران العديد من المعارض الخاصة وساهم في مشاركات جماعية دولية ومحلية، وحاز عددا من الجوائز منها جائزة الشباب الأولى في العام 1990، والجائزة الذهبية من مهرجان الفن العراقي المعاصر 1995، ووسام تقديري من بينالي القاهرة 1999، والجائزة التقديرية بينالي بغداد العالمي الثالث 2002، والوسام الذهبي من مهرجان المحرس الدولي بتونس 2002.

أما الفنان السوري عبيدة فياض، فهو من مواليد دمشق سنة 1985، وهو ابن الفنان التشكيلي عبدالحميد فياض. حاصل على إجازة في الفنون الجميلة من جامعة دمشق، قسم الاتصالات البصرية سنة 2007، وحاز على جائزة بانداس دبي للجامعات العربية في مجال التصميم سنة 2005/ 2006، وله العديد من المعارض الجماعية والفردية بسوريا وخارجها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى