دير شبيغل: مشكلة التطرف عبر الإنترنت تتضاعف!
النشرة الدولية –
أثبت الهجوم على مبنى الكابيتول في العاصمة واشنطن مدى خطورة التطرف عبر شبكة الإنترنت. من خلال نشر الكراهية والتحريض على العنف، تطرح مواقع التواصل الاجتماعي خطراً على الديمقراطية. فهذه الشبكات تغذي وتنمي الشعور القومي بشكل متطرف، وقد تحرض أحياناً على العنف وتؤدي الى أحداث شغب لا تحمد عقباها، كما حصل أخيراً في الولايات المتحدة الأميركية. فريق “شبيغل” عكف على دراسة هذه الظاهرة وعاد بالتقرير الشائق التالي.
في لقاء مع موقع “ياهو فاينانس”، توقّع خبير الاقتصاد سكوت غالواي المعروف بانتقاداته اللاذعة لمنطقة “سيليكون فالي” التكنولوجية أن يكون اقتحام مبنى الكابيتول “بداية نهاية عصر شركات التكنولوجيا الكبرى بالشكل الذي نعرفه”.
لكن هل يعني ذلك أنّ منصات مواقع التواصل الاجتماعي، مثل “فيسبوك” و”يوتيوب”، توشك على الاختفاء بعدما غيّرت طريقة التواصل بين مليارات المستخدمين وسيطرت على تبادلاتهم في آخر عشر سنوات؟
انتشرت الادعاءات المعادية لمواقع التواصل الاجتماعي منذ نشوء هذه المنصات. لكن نادراً ما تحوّلت السخافات المتداولة على هذه الشبكات إلى واقع ملموس كما حصل في الفترة الأخيرة.
لقد شاهد العالم بكل وضوح كيف تنتشر الأكاذيب ومظاهر العنف والكراهية بلا رادع وأدرك الجميع تداعيات حملات التضليل المحتملة. شاهدنا ما يمكن أن يحصل حين تُحدّد أنظمة الحلول الحسابية نظرة المستخدمين إلى العالم ولاحظنا مدى نجاح تلك الأنظمة في تنفيذ المهام الموكلة إليها، أي إنشاء نظام يسمح للمستخدمين بفرض آرائهم وتضخيمها.
لكن إذا كان الهجوم على مبنى الكابيتول في 6 يناير الجاري بمنزلة جرس إنذار فعلاً، ما المسائل التي يجب التنبه لها؟
حين كانت مواقع التواصل الاجتماعي قيد التطوير، بدا وكأنّها تتجه لتصبح أداةً لفعل الخير. سهّل العالم الرقمي الوصول إلى المعلومات وسمح لأعداد هائلة من الناس برفع الصوت والتعبير عن آرائهم وخسرت وسائل الإعلام التقليدية في المقابل دورها الرقابي.
كانت العواقب ثورية بمعنى الكلمة. دعمت شبكات التواصل الاجتماعي “الحركة الخضراء” في إيران في عام 2009 ثم الربيع العربي بدءاً من عام 2010. واتّضحت للمرة الأولى مدى سهولة تنظيم حركة احتجاجية بواسطة تويتر والهواتف الذكية.
خلال السنوات العشر اللاحقة، بدأت مواقع التواصل الاجتماعي تؤدي دوراً محورياً في جميع الانتفاضات حول العالم: ثورة “الميدان الأوروبي” في أوكرانيا، وحركة “السترات الصفراء” في فرنسا، وتحركات الناشطين المنادين بالديمقراطية في هونغ كونغ، والتظاهرات في تشيلي ونيكاراغوا، وأخيراً حركة “حياة السود مهمة” في الولايات المتحدة، وحركة “أنا_أيضاً” المناهضة للتحرش الجنسي، والاحتجاجات ضد تزوير نتائج الانتخابات في بيلاروسيا.
لكن بدأت سلبيات هذه الأداة القوية تتضح مع مرور الوقت. في الهند، انتشرت عبر تطبيق “واتساب” شائعات كانت كفيلة باندلاع أعمال عنف قاتلة. وفي ميانمار، تذكر منظمات حقوق الإنسان أن حملات التحريض عبر الإنترنت ضد أقلية الروهينغا أدت إلى ارتكاب جرائم قتل واغتصاب وطرد السكان. وفي دول أوروبية ديمقراطية مثل بولندا وفرنسا وبريطانيا، أدت مواقع التواصل الاجتماعي إلى تأجيج ظاهرة الشعبوية.
ربما بدت هذه التحركات في معظمها عفوية، لكنها كانت على درجة عالية من التنظيم. نُظّمت أعمال الشغب الأخيرة في الولايات المتحدة عبر الإنترنت أيضاً قبل تاريخ 6 يناير.
لم يكتفِ أتباع ترامب المتطرفون باستعمال المنصات التابعة لشركات التكنولوجيا العملاقة في “سيليكون فالي”، فقد اكتشف المتطرفون اليمينيون وداعمو نظريات المؤامرة منذ وقتٍ طويل أدوات بديلة مثل منتدى “ذا دونالد” وتطبيق “بارلير”.
بالإضافة إلى الخطابات الإيديولوجية، استُعمِلت تلك المنصات أيضاً لوضع خطط عملية ولوجستية. نُظّمت رحلات مشتركة وحُجِزت أماكن للإقامة فيها خلال الليل. كذلك، نُشرت تفسيرات للتحايل على قوانين حمل الأسلحة الصارمة نسبياً في العاصمة واشنطن. اتّضح استعداد البعض لارتكاب العنف في منشور تكلمت فيه امرأة عن توديع والدتها تحسباً لأي طارئ، فكتبت: “كانت حياتي جيدة… لكن إذا اضطررنا لاقتحام مبنى الكابيتول، سأقوم بذلك حتماً”.
خلال الأشهر التي سبقت الهجوم على الكابيتول، لم تحقق أي شبكة أخرى في الولايات المتحدة شعبية واسعة بقدر تطبيق “بارلير” وسط المتطرفين اليمينيين والجماعات التي تتجه نحو التطرف. حين حظر “فيسبوك” سريعاً مجموعة فيها أكثر من 300 ألف عضو اسمها “أوقفوا السرقة” بعد الانتخابات الرئاسية، انتقل أعضاؤها بكل بساطة إلى الجهة المنافِسة. يقول رئيس تطبيق “بارلير”، جون ماتزي، إن 4 ملايين ونصف المليون مستخدم جديد تسجلوا في المنصة خلال أربعة أيام فقط بعد الانتخابات.
دائماً اعتبر ماتزي منصته مكاناً آمناً لحماية “حرية التعبير”، لكن سرعان ما تحوّل تطبيق “بارلير” إلى بؤرة لمعاداة السامية والعنصرية والتطرف اليميني. فتح أتباع الميليشيات اليمينية حسابات لهم على “بارلير”، لكن حذا حذوهم أيضاً سياسيون يمينيون من أمثال تيد كروز ومحامون في أوساط ترامب.
كان دور “بارلير” حاسماً في عملية اقتحام مبنى الكابيتول. بعد تحليل البيانات الجغرافية لمستخدميه، تبيّن أنهم حمّلوا فيديوهات من داخل الكابيتول. في أحد المقاطع، يصرخ رجل عبر مكبّر الصوت: “أين هم الخونة؟ خذوني إلى الخونة”!
لكن لم تصمد هذه المنصة وقتاً طويلاً. بعد خمسة أيام فقط على اقتحام الكابيتول، اختفت المنشورات من الإنترنت ولم يعد تطبيق “بارلير” متّصلاً بالشبكة الآن.
في غضون ذلك، اكتفت المنصات التابعة لشركات “سيليكون فالي” بحذف حسابات ترامب، المُحرّض الأساسي، وأتباعه المتطرفين. في البداية حظر “تويتر” و”فيسبوك” حسابات ترامب وسارع “يوتيوب” إلى منع أي فيديوهات جديدة من الرئيس موقتاً. ثم أضعفت شركة الخدمات السحابية “سيلز فورس” قدرة الحزب الجمهوري على استعمال خدمات البريد الإلكتروني الجماعية. لكن كان تطبيق “بارلير” (وصل عدد مستخدميه إلى 15 مليون) الأكثر تضرراً. عمدت شركتا “غوغل” و”آبل” إلى تجريد هذه المنصة من متاجر تحميل التطبيقات، ومنعتها “أمازون” من استخدام خدمتها السحابية AWS التي يستعملها “بارلير” لتخزين بياناته. يتعلق السبب بضعف ضوابط المحتوى.
لكن هل يمكن أن يترافق كبح الآراء العدائية مع نتائج عكسية؟ قد تُرسّخ هذه الخطوة التوجهات المعادية للسلطة وتمنع الناس من تقدير جهود المعسكر الوسطي المعتدل، حتى أن مستخدمي الشبكات البديلة قد ينشرون مظاهر التطرف في ما بينهم أكثر مما يحصل اليوم.
تشكك الأجهزة الأمنية أيضاً بفاعلية كبح الآراء العدائية. من الأسهل عليها أن تراقب مواقع التواصل الاجتماعي المفتوحة والمعروفة بدل مراقبة المنصات البديلة والمتفرقة، علماً أن بعضها يصعب الوصول إليه مثل “تليغرام”.
انقسم الرأي العام حول حظر حسابات ترامب. دعم الكثيرون هذه الخطوة، لكن عبّر آخرون عن قلقهم من هذا الوضع أيضاً. صدر أقوى انتقاد من برلين، فقد اعتبرت المستشارة الألمانية آنجيلا ميركل عن طريق المتحدث باسمها أن حظر حسابات الرئيس الأميركي على مواقع التواصل الاجتماعي بشكلٍ دائم يطرح “إشكالية” واضحة. يبقى الحق الأساسي بحرية التعبير بالغ الأهمية بحسب رأيها ويجب أن يُقِرّ المشرّعون، لا الشركات الخاصة، هذا النوع من الضوابط.
لم تحبذ مفوضة شؤون المنافسة في الاتحاد الأوروبي، مارغريت فيستاغر، حظر ترامب أيضاً فصرّحت لصحيفة “دير شبيغل”: “لا، ليس مُطَمْئِناً أن تقرر شركات خاصة ما نستطيع رؤيته نحن كمستخدمين. ثمة فرق بين المحتويات المسيئة وغير القانونية والآراء التي لا نوافق عليها نحن البشر”.
في المقابل، اعترفت فيستاغر بأهمية أن يتحمّل تويتر و”فيسبوك” الآن مسؤولية مشتركة لمنع انتشار أي مواد غير قانونية. تُعتبر المفوضة فيستاغر، وهي نائبة رئيسة المفوضية الأوروبية أيضاً، أقوى امرأة في العالم على مستوى تنظيم محتويات الإنترنت.
في مطلق الأحوال، شكّلت المشاهد الصادمة في واشنطن وتداعياتها اللاحقة مبرراً مناسباً لجميع الجهات التي أمضت سنوات عدة وهي تدعو إلى الحد من نفوذ شركات التكنولوجيا. في شهر يناير الماضي، عمدت “لجنة التجارة الفدرالية” في الولايات المتحدة، بالتعاون مع أربعين ولاية، إلى مقاضاة “فيسبوك” على خلفية “سلوكه المعادي لمبدأ المنافسة” وطالبت باسترجاع مقتنيات الشركة الأخيرة.
ثمة دعوى قضائية عالقة أخرى ضد “غوغل” في الوقت الراهن. قبل عيد الميلاد بفترة قصيرة، طرحت المفوضية الأوروبية خطة بعنوان “قانون الخدمات الرقمية” لتنظيم عمل المنصات. تهدف هذه الخطة إلى إلغاء ممارسات العمل غير المنصفة والتشجيع على توسيع المنافسة.
يبدو أن الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة ينوي بدوره أن يحدّ من نفوذ شركات التكنولوجيا العملاقة. في هذا السياق، صرّح السناتور ريتشارد بلومينثال من ولاية “كونيتكت” لصحيفة “واشنطن بوست” حديثاً: “هذه الأحداث ستُجدّد تركيز الكونغرس على إصلاح قطاع شركات التكنولوجيا الكبرى. لم تتحرك شركات “فيسبوك” و”غوغل” و”تويتر” إلا بعد انهيار الوضع وسفك الدماء في الكابيتول”.
أعلن الرئيس الأميركي المُنتخب جو بايدن في السنة الماضية أنه يطمح إلى الحد من امتيازات شركات التكنولوجيا، منها عدم مسؤوليتها عن المحتويات التي تنشرها منصاتها. ثم دعا في يناير الماضي إلى إلغاء هذه الصلاحية التي يستفيد منها زوكربيرغ ومنصات أخرى فوراً. هذه المواقع ليست مجرّد شركات عاملة على شبكة الإنترنت بحسب رأيه، إذ لا تستطيع صحيفة “نيويورك تايمز” مثلاً أن تكتب أي خبر تعرف أنه خاطئ من دون أن تتعرض للملاحقة القضائية، لكن تستطيع شركات التكنولوجيا أن تفعل ذلك.
أصبح منطق تفكير بايدن واضحاً: إذا كانت الإهانات والتهديدات والدعوات التحريضية غير قانونية على أرض الواقع، يُفترض أن تُعتبر كذلك على شبكة الإنترنت أيضاً ويجب أن يُعاقب المسؤولون عنها. لكنّ توسّع نطاق عمل الشبكات يُصعّب تطبيق القواعد النموذجية على العالم الرقمي وتنفيذ القوانين المتعارف عليها. ستواجه الدولة أعباءً كبرى عند تنفيذ هذا النوع من المهام. يوظّف “فيسبوك” وحده 15 ألف مراقب حول العالم وهم يضطرون بشكل عام لتقييم أي منشور خلال ثوانٍ معدودة. لن يتمكن جميع المدعين العامين والقضاة في دول العالم إذاً من فهم مختلف الآراء والصور المنشورة في سياقها الحقيقي وتقييم تطابقها مع القوانين بالدقة اللازمة، حتى لو استعانوا بالذكاء الاصطناعي لمساعدتهم.
يظن بعض الخبراء أن الحل يكمن في الشبكات البديلة التي تقدّمها الخوادم المترابطة Fediverse، إذ تتواصل جماعات أصغر حجماً عبر استعمال بروتوكول تقني مشترك. يتولى متطوعون صيانة هذه الشبكات ومراقبتها بشكلٍ مستقل، ما يُسهّل مسار التفاعلات المدنية.
تثبت أمثلة أخرى أن هذه الطريقة قد تكون فاعلة. في عام 2019، حاولت منصة الشغب “غاب” أن ترسّخ مكانتها في مجال الخوادم المترابطة، لكن فشل مصمّموها في التسلل إلى الشبكة اللامركزية. سرعان ما أصبحت “غاب” معزولة ثم انسحبت من المنافسة في نهاية المطاف.
في أواخر عام 2018، اقترح مخترع شبكة الإنترنت تيم بيرنرز حلاً محتملاً يقضي بإبرام عقد خاص بالإنترنت يتألف من تسعة مبادئ لمحاسبة الشركات والحكومات والمواطنين. يجب أن يبني المواطنون “مجتمعات قوية تحترم الخطاب المدني والكرامة الإنسانية”. في غضون ذلك، يجب أن تُطوّر الشركات “تقنيات تدعم أفضل ما تقدّمه البشرية وتتحدى أسوأ ما تفعله”.
سبق وأثبت جون سكوت رايلتون أن شبكات التواصل الاجتماعي قد تُمكّن الناس من فعل الخير. يعمل هذا الأميركي في جامعة تورنتو كباحث في مختبر “سيتزن لاب” حيث نجح في الكشف عن محاولات حكومية لمراقبة الصحفيين والمعارضين منذ سنوات.
لكنّ تحركاته باتت تحمل دافعاً آخر منذ الهجوم على مبنى الكابيتول. حين ينظر إلى صورة الرجل المقنّع الذي كان يحمل أسلاكاً بيده، لا مفر من أن يتساءل: “هل كانوا يخططون لأخذ الرهائن فعلاً؟ هل يمكن أن نحصل على صور إضافية لذلك الرجل”؟
أطلق سكوت رايلتون للتو حملة شَغَلته لأيام على مواقع التواصل الاجتماعي، فتابعه عشرات آلاف المستخدمين الجدد على “تويتر” واكتسب شعبية واسعة ما كان ليحظى بها بفضل عمله القيّم في المختبر. يحلل رايلتون لقطات من أحداث مبنى الكابيتول ويجمع مؤشرات وأدلة من عشرات آلاف المتطوعين الآخرين، كما صرّح لصحيفة “دير شبيغل”، ويشارك بذلك في تحديد هوية المعتدين.
تمكّن هذا الفريق في النهاية من التعرّف على الإرهابي الذي سمّاه سكوت رايلتون في البداية “رجل الأسلاك”، فتبيّن أنه إيريك مونشل من ناشفيل، تينيسي. اعتُقِل هذا الرجل لاحقاً ووُجّهت التُهَم ضده.
لتحديد هوية مونشيل، اشترى سكوت رايلتون صورة عالية الدقة من وكالة “أسوشيتد برس” مقابل 435 دولاراً. في النهاية، تعرّف أحد مستخدمي “تويتر” على ذلك الرجل عبر صورة منشورة على “فيسبوك”. كذلك، انكشف أمر والدة مونشيل التي تظهر في الصور إلى جانب ابنها خلال محاولة الانقلاب.
يتابع سكوت رايلتون حتى الآن جهوده للتعرّف على “صاحب القبعتَين” و”مُطفئ الحريق” ويساعده فريق رقمي كامل في هذه المهمة.