هزيمة الذات ومحنة الكتابة في رواية “الحرب والجسد”
النشرة الدولية –
اندبندنت عربية – لنا عبد الرحمن –
تنتمي رواية الكاتب السوري عماد مصطفى مفرح “الحرب والجسد” (دار العين– القاهرة) إلى أدب الحرب الذي يدين كارثية ما تفعله الحروب بالروح الإنسانية من خراب ينخر في العمق، وتتطرق إلى الواقع الكابوسي العابث الذي خلفته الحرب في سوريا من خلال بطلها المتلعثم الذي تتوه الكلمات في حلقه قبل أن يتلفظ بها. لا يبدو الموت صنواً للحياة فقط في الرواية، بل إنه يحضر منذ المشهد الأول مع سؤال “هل سأدفن حياً؟” حيث تنفتح الرواية مع البطل السارد الممدد في تابوت إلى جانب جثة ضابط ميت، لكن الراوي يريد أن يحيا، هو ليس بميتٍ، وإن لاحقه الموت قبل حلوله بزمن. مثل هذه البداية تضع القارئ في مواجهة الواقع بلا مواربة، وعبر لغة مباشرة تتخير دلالاتها بما يتوافق مع المشهد ككل.
تحكي الرواية عن بطل يُطلب منه إعادة كتابة رواية “الحرب والجسد” التي اتهم بها وتسببت في سجنه، هو شخص يكره القراءة والكتابة، ويتأتئ في حديثه، ومعتقل داخل سجن ومطلوب منه أن يعيد كتابة الرواية. لنقرأ “دخل علي رجل مُلثم، ذو كرش كبير برفقة ثلاثة أطفال مسلحين بالبنادق. رمى أمامي الدفتر الأزرق، حيث مسودة رواية الحرب والجسد، وحزمة من الأوراق والأقلام، أخرج الملثم من جيب أعلى ثوبه الأفغاني القصير ورقة بعد أن جعلني أجثو على ركبتي لتلاوة الحكم الذي أصدرته محكمتهم الشرعية والقاضي بقتلي وحرق جثتي في حال رفضت إعادة كتابة رواية الحرب والجسد”.
في الفصل الثاني الذي يحمل عنوان “مذكرات تمثال” تتحول حالة الكتابة من فعل إلزامي، أُجبر البطل عليه، إلى وسيلة للتواصل مع العالم، وإلا كيف سيواجه الحروب والتطرف والموت الحاضر حوله في كل مكان، وإن بدا للقارئ وعي الشخصية في تساؤله عن بناء عوالم الشخصيات وتطويع الكلمات أعلى من شخصية البطل الذي يعترف بأنه لم يمتلك يوماً ترف الاطلاع على كتاب أو مراقبة حياة الآخرين. إذاً، ثمة صراع يتشكل داخلاً وخارجاً حول كتابة رواية “الحرب والجسد”، صراع البطل مع خاطفيه، وصراعه هو الداخلي مع الكتابة. يطرح البطل آلامه وإخفاقاته الحياتية، وإحساسه بأن كل من التقى بهم في حياته لا تحمل سيرتهم ما يستحق الكتابة فيما عدا والدته التي غيبها “الزهايمر” في قلب النهر، ابتلع الماء روحها وخطف جسدها، رغم عدم العثور على الجثة. يسترسل الراوي في الحديث عن واقعه كمجند سابق قبل أن يُختطف، وتتداخل حالة الخوف والرهاب بين حاضره كأسير، وماضيه كجندي يخاف من تمثال الرئيس الصامت، “في الأيام الأولى من مهمتي لم أتجرأ على رفع بصري والنظر في رأس التمثال”.
رهاب الخوف
إن عبث الواقع وسرياليته يتداخلان في مخيلة البطل، بين الإيهامات، والتخيلات، والواقع الحقيقي المرعب في زمن الحرب، وانتهاك الأجساد وإراقة دمائها، هذه التفاصيل المشتبكة بين حدوثها وكتابتها يمكن اعتبارها نواة هذه الرواية. إذ كيف يمكن الفصل حقاً بين جحيم الحرب الواقعة، وسطور الكلمات المكتوبة عن هذه الحرب، يكاد يكون الفصل مستحيلاً بين تخيل اقتراف القتل، أو رؤيته أو الكتابة عنه، بين عبور الشوارع المدمرة والمرور بأنقاض البيوت والجثث، وافتراض هذا كله. فالحرب بكارثيتها ترسو في القاع وتطفو على السطح في تداخل لا يمكن فصله.
في الفصل الذي يحمل عنوان “أنا جثة” يحاول الكاتب إيجاد مسارات واقعية ومبررة للأحداث، فالسرد يمضي بشكل باطني، البطل يرفض الكلام تماماً داخل المستشفى، حد أن الممرضة “نسمة” تظن أنه أخرس اللسان. لكن حواره الداخلي المحتدم لا يتوقف، ترصد عيناه كل ما يحدث حوله، جنازات الضباط والجنود المقتولين في ذاك المشفى العسكري، جثامين أناس مدنيين من أطفال ونساء. يفترض الراوي أن نسمة ستظنه خائناً لو خمنت أنه يتمارض من أجل التهرب من أداء الخدمة الوطنية. إن الوصول لهذا المونولوغ الداخلي في مراقبة العالم ورؤية الآخر أياً كان على أنه رقيب يهدد الذات ليس نتاج الحرب فقط، بل إنه النتيجة الحتمية لسنوات الخوف المتراكمة، التي واجهها البطل بشكل مباشر بداية من لحظة وجوده كمجند، وعلاقته بمن حوله، ثم انتقاله إلى المستشفى، ثم وقوعه في الأسر، ومحاولته مقاومة رعب الواقع وعجزه الشخصي عبر الكتابة، رغم كرهه القراءة وتلعثمه في الكلمات.
تتطرق الرواية في بعض الفصول إلى جانب من الوقع الذي شاهدناه في حرب سوريا، جانب حقيقي جداً رغم مأساويته وعبثيته. لكنها في مجملها أحداث لم تأت من الخيال، الخطف، القتل، العصابات المسلحة، التهديد، التشرد، الجنون، الانتهاك الإنساني بكل وجوهه غير بعيد عن الحقيقة. لنقرأ في مطلع الفصل الأخير الذي يحمل عنوان خطوط وكلمات “لم تكن هي المرة الأولى التي يتم فيها، تمثيل مشهد قطع رأسي أمام الكاميرا، لقد فعلوا الأمر لمرات عدة. وأعتقد أنهم سيفعلونها ذات مرة كفعل حقيقي ومنتهٍ”.
يبدو الزمن في “الحرب والجسد” بلا معنى، بلا قيم، منتهكاً في قانون الحرب، الزمن هنا جزء من متاهة كبرى تبتلع الأشخاص في أقدار غامضة مجهولة، ما بين السجن والمعتقل والخطف والمستشفى ثمة أزمنة متشظية تمضي بلا وقت محدد، حد أن البطل السارد لا يعرف كم مضى عليه ضمنها. أما العلاقة مع الأماكن فتبدو أيضاً عاكسة للحرب ومجرياتها، حيث الأماكن النائية والمقفرة، غرف السجون، الطرق الخربة، الشوارع المدمرة، الخنادق. تبدو الأماكن قابضة ومتماهية في سوداويتها مع الزمن واللغة.
يعجز البطل عن كتابة الرواية، لذا سيكون مهدداً بالموت، لكن الموت هنا ليس فقط بسبب العجز عن كتابة الرواية، بل لأن العالم من حوله ككل انغلق وضاق، حتى ما ظل يرافقه إلا هاجس تخيله أنه ما زال محبوساً في تابوت مع جثة، حيث يختلط الموت مع الحياة في جحيم لا نهائي يجعل الكاتب يختار الجملة الختامية لروايته هي ذات الجملة التي بدأها بها “هل سأدفن حياً؟”.