اللغة الذكورية في إعلانات الوظائف إجحاف في حق النساء
النشرة الدولية –
يصف عدد كبير من الأدباء العرب، ومنهم الليبي جبرائيل العبيدي، المحاولات التي تخوضها بعض التجمعات النسوية لجندرة اللغة “قسرا”، بدءا من اتهامها بالذكورية وتخصيص الخطاب والزعم بـقصوره وبتحيزه للذكور دون الإناث، بأنها بائسة ويائسة، متسائلين كيف تنصف اللغة جنسا أو تميز ضده وكيف تغيب لغة ما الجندر والجنسانية وتظهرهما؟
ولكن ما لفتت إليه ليلى طه، الباحثة النسوية في أدوات الحقوق الرقمية في محادثة طويلة مع رولا أسد المديرة التنفيذيّة لشبكة الصحافيّات السوريات، يؤكد فعلا أن اللغة يمكن أن تنصف جنسا وتميز ضده، فقد أشارت إلى أن الاستخدام المتكرّر لصيغة المذكّر في الخطاب العام بالعربية فيه إقصاء للمرأة.
وقالت أسد “عندما تكون هناك افتراضات بأن اللغة المُتداولة والمُستخدمة متضمنة للنساء رغم كونها غير متضمنة للنساء، ليس بشكل مباشر، يبقى التخيُّل هو مجموعة رجال وليس مجموعة نساء، أو مجموعة من الناس متنوعي الهويات”.
وتؤمن رولا بأن اللغة أداة ووسيلة تؤثر على الرأي العام وتُشكل الخطاب تجاه فئة أو قضية ما، وتعكس نفسها أخيرا في حياة الناس اليومية وفي سلوكياتهم وردود أفعالهم.
وعندما سئلت عن كيفية تأثير استخدام جمع المُذكر السالم على استقبالها لنص ما، أجابت “لا أشعُر بأني معنية في الموضوع المطروح، فلا أنخرط في المسألة. وهذه ليست مُبالغة، فهذا يؤثر في مدى الفعالية أو المسؤولية التي تتكون لديّ اجتماعيا. لذا لديّ موقف من الإنتاج المعرفي الذي لا يُضمِّنُني في أدواته”.
يمكن أيضا للغة التي تصاغ بها إعلانات الوظائف أن تكرس مسألة الجندر، ويمكن أن تكون سببا في إقبال النساء على وظائف دون أخرى، كما يمكن أن تمنع النساء من التقدم إليها.
وفي كتابتها “النساء اللامرئيات”، تقدّم الصحافية الإنجليزية كارولين كريادو – بيريز العديد من الدلائل على أن البيانات التي نستخدمها في رسم السياسات الاقتصادية والصحية والحياتيّة بشكل عام لا تأخُذ النساء بعين الاعتبار، مما يتسبّب في دفعهن لأثمان باهظة من وقتهن ومالهن وحتى أحيانا بحياتهن.
وخلصت دراسة أجريت ضمن حملة لجذب المزيد من النساء إلى القطاعات التي يهيمن عليها الذكور إلى أن اللغة الذكورية في بعض إعلانات الوظائف في بريطانيا تمنع ما يصل إلى واحدة من كل امرأتين من التقدم.
وقد وجدت أوبن ريتش، التي تدير البنية التحتية ذات النطاق العريض في المملكة المتحدة، أن اهتمام النساء بالتقدم لوظيفة هندسية زاد بأكثر من 200 في المئة عند إجراء تغييرات على اللغة في الإعلان.
وسألت الشركة ألفي امرأة عن إعلانين مختلفين لنفس الوظيفة، ووجدت أنهن نفرن من إعلانات جاء فيها “على الطريق في شاحنتك” و”تتسخ يديك” و”تذكر تسلق عمود الكهرباء”.
وقال كيفين برادي، مدير الموارد البشرية في أوبن ريتش، التي تسعى لتوظيف النساء في 500 من أصل 2500 وظيفة هندسية جديدة هذا العام (10 أضعاف المعدلات التاريخية) “اندهشنا لرؤية مدى الاختلاف الذي تحدثه اللغة. نأمل أن يكون هذا الحافز للمساعدة في كسر الحواجز التي تمنع النساء من التفكير في الهندسة”.
وبينما قالت 80 في المئة من النساء إنهن لن يفكرن في العمل في الهندسة، أبدت 56 في المئة اهتماما بالوظيفة بمجرد إعادة صياغة الإعلان، بما في ذلك استبدال كلمة “مهندس” بكلمة “منسق الشبكة”. كما صيغ الإعلان الجديد مهارات بلغة أكثر حيادية، ونص على أن المتقدمين يجب ألا يخافوا من المرتفعات.
وتصل نسبة المهندسات لدى أوبن ريتش 3 في المئة من إجمالي الذين يشغلون هذه الوظيفة، وتحوم هذه النسبة حول 11 في المئة على الصعيد الوطني.
وقال ربع المستجوبين، الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و55 عاما، إنهم مازالوا يعتقدون أن بعض الأدوار ملائمة للرجال أكثر، وأشار الباحثون إلى أن النتائج تنطبق على العديد من الصناعات الأخرى.
وقالت المشرعة كارولين نوكس، وهي رئيسة لجنة المرأة والمساواة بالبرلمان، إن تشجيع المزيد من النساء على الهندسة كان معركة لعقود. وتابعت “تأخذ هذه الدراسة خطوة كبيرة نحو إزالة الحواجز التي من شأنها أن تمنع المرأة حتى من التفكير في أدوار تعدّ قادرة على القيام بها”.
وحثت هيلاري ليفرز، التي تشغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة انجينيرينغ يو كاي التي تعمل على زيادة التنوع في القطاع، الشركات الأخرى على مراجعة اللغة التي استخدمتها في الإعلانات.
وأظهرت الدراسة، التي أجريت مع متخصصين لغويين، أن 55 في المئة من المشاركين يفكرون في مهنة جديدة بسبب الوباء.
وقال كيفين برادي “لم تكن الحاجة أكثر أهمية لإزالة العوائق التي تحول دون التوظيف وفتح القطاعات المغلقة”.
وتناهض اليوم الكثير من الجمعيات والمنظمات وبإصرار وشدة الصورة النمطية للمرأة، والتي تكرسها وسائل الإعلام لاسيما عن طريق الومضات الإشهارية التجارية. وأغلب ما يرد في تلك الومضات يهدف إلى ترويج سلعة تحقيقا للمرابيح، إلا أن طريقة العرض من صور وكلمات وحتى من فكرة عامة تعكس طريقة تفكير المجتمع إزاء المرأة، وهي طريقة قديمة فيها عدم إنصاف المرأة وعدم مواكبة لما بلغته من شراكة حقيقية للرجل. فهي كائن بشري تماما مثل الرجل، ومن الجهل والظلم معا حصر وجودها في الجانبين الجمالي والاستمتاعي، بل من المخالفة للواقع حمل فكرة أو تكريسها عن أن المرأة خادمة بيتها.
وقال الصحبي بن منصور أستاذ الحضارة في جامعة الزيتونة “نعاين في معلقات التكوين المهني وفي إعلانات الشغل ما يرسخ في المجتمعات العربية الصلة الوثيقة بين الرجل وحاجات الدورة الاقتصادية إليه وإلى قوته العضلية وطاقاته الفكرية في تغييب أو تقزيم للمرأة. وهو تغييب وتقزيم غير مقصودين في العلن ولا يتمان بشكل صريح، إنما يترسخ ذلك عن طريق تكرار توظيف صورة الرجل في مواضع العمل وفي هيئات وحركات متعددة، مما يحبط من عزائم المرأة للشغل ويرسخ لديها الإحساس بالدونية والشعور باستنقاص قيمتها وما يمكن أن تقوم به من وظائف، ومما ينمي في الوقت نفسه غرور الرجل وفكرة أن المرأة كائن ضعيف في المجتمع ولا قدرة لها على تحمل صعوبات العمل، وبالتالي ينبغي تكريس دورها التقليدي في المجتمع وهو خدمة شؤون المنزل ورعاية زوجها وأولادهما والسهر على تلبية حاجياتهم”.
وأضاف لـ”العرب” “إذا توقفنا قليلا مثلا عند لغة إعلانات الشغل سننتبه إلى أنها أداة تواصل فعال مع المتلقي لما تحمله في طيات خطابها من رونق وسحر جمالي، غير أنه من المؤسف جدا أنها تحمل أيضا في مجملها وبشكل عميق طابعا إقصائيا للمرأة. وكأن الشغل مرتبط بالرجل. وأن الدورة الاقتصادية النشيطة تقوم على الرجل ولا تحتاج إلا إليه”.
ويكمن وجه الخطورة في جل أنواع إعلانات الشغل بعالمنا العربي في تلك البلاغة الخطيرة البالغة التأثير في أجيال الحاضر والمستقبل، لأنها إذ تسلط الضوء على الصفات المرغوب فيها لدى الشركات والإدارات سواء من خلال أبطال الومضات الإشهارية من رجال أو من ألفاظ بعينها أو من صور، فإنها تكرس فكرة أن مجتمع الشغل يقوم أساسا على جهود وكفاءات الرجال، الأمر الذي يقصي نصف المجتمع من خلال اعتبار المرأة كائن غواية وفتنة وعورة وتحتاج دائما إلى محرم في أماكن العمل وإلى عدم التواصل مع الرجال، وغير ذلك من الأفكار الرجعية المناقضة لتعاليم الإسلام ولتاريخ العرب الحقيقي الذي كانت فيه المرأة تتاجر في الأسواق وتمارس أشق المهن وأيضا أنبلها مثل الطب والتمريض وشؤون الحكم والإدارة والتعليم والثقافة.
ويرى بن منصور أن الجانب التنميطي الخطير في لغة إعلانات الشغل ما يتصل بعملية الترميز. فالرموز التي لا نلقي لها بالا ويهتم لها المنتصرون لحقوق المرأة تخلق في الحقيقة روابط وهمية بين الأشياء في عقولنا، مثل ارتباط العمل بالرجل والمنزل بالمرأة، ولهذا فالمطلوب اليوم هو ترشيد الخطاب الإشهاري وتوعيته بالمخاطر التي يجلبها على المجتمع، باعتبار أنه مؤثر في سلوك الناس وفي اعتقاداتهم المهنية والاجتماعية.
ويشير إلى أن الوعي بالشيء هو نصف حل للمشكلات المجتمعية، والإصلاح المباشر وغير المباشر هو النصف المكمل لكل حل.
لغة إعلانات العمل أداة تواصل فعال مع المتلقي تحمل في طيات خطابها رونقا وسحرا جماليا لكنها تحمل أيضا في مجملها وبشكل عميق طابعا إقصائيا للمرأة
لغة إعلانات العمل أداة تواصل فعال مع المتلقي تحمل في طيات خطابها رونقا وسحرا جماليا لكنها تحمل أيضا في مجملها وبشكل عميق طابعا إقصائيا للمرأة
أما عالم الاجتماع التونسي عبدالستار السحباني فيرى أن لغة الإعلانات تتنزل عادة في إطار ما يطلبه أصحاب المؤسسات الذين يصنفون الوظائف إلى صنفين؛ وظائف كبرى تتطلب مسؤولين كبارا تعطى للرجال، ووظائف ثانوية تتطلب يدا عاملة تعطى للنساء لأنه يسهل استغلالهن ولا يطالبن بحقوقهن.
وقال السحباني لـ”العرب” إن أصحاب المؤسسات يفضلون دائما العنصر الرجالي لأن باستطاعة الرجال الهيمنة على المجموعة ولهم القدرة على التحمل وبإمكانهم التنقل من مسافات بعيدة ولأنهم أولياء الأسر يتشبثون بعملهم أكثر من النساء.
وأضاف أنه في مجتمع ذكوري تعطى مسؤولية الأسرة والقرارات الكبرى للرجل وينعكس ذلك على إعلانات الانتداب في الوظائف، حيث أن هناك وظائف قيادية للرجال ووظائف ثانوية للنساء. وفي المجتمعات الذكورية نجد النساء في مصانع الخياطة أو خادمات أو يشتغلن بالتنظيف في المؤسسات الكبرى. ودائما ما ينظر لراتب المرأة على أنه شيء إضافي يمكن الاستغناء عنه.
وتبقى معالجة الفروق بين الجنسين في معدلات المشاركة في قوة العمل شاغلا رئيسيا في العديد من البلدان.
ويرى خبراء الاقتصاد أنه حينما تُتيح مختلف البلدان للنساء المزيد من الفرص للمشاركة في الاقتصاد، تتجاوز المنافع كثيرا حدود الفتاة أو المرأة لتصل إلى المجتمع والاقتصاد على اتساعه.
ويقول الخبراء إن التصدي للفجوات بين الجنسين في سبيل الحصول على وظائف جيدة ليس هو الصواب الذي ينبغي توخيه من منظور حقوق الإنسان فحسب، وإنما هو أيضا اقتصاد يتسم بالذكاء.
وأظهرت دراسات حديثة أن زيادة مشاركة النساء في قوة العمل إلى حد المساواة مع الرجال تُؤدِّي إلى زيادة إجمالي الناتج المحلي في الولايات المتحدة بنسبة 5 في المئة، وفي الإمارات العربية المتحدة بنسبة 12 في المئة، وفي مصر بنسبة 3 في المئة.
ويعتبر الخبراء أن التركيز على نوعية الوظائف المتاحة للنساء خطوة مهمة في حال كان لهذه الوظائف أن تصبح ذات طابع تحويلي مؤثِّر على تمكينهن. ويرون أن إتاحة وظائف جيدة تتسم بأنها مستقرة ولائقة وآمنة ومنتجة أمر بالغ الأهمية من منظور المساواة بين الجنسين، لأن النساء على الأرجح يُؤلِّفن نسبة أكبر من الرجال في وظائف القطاع غير الرسمي التي لا تتطلب تفرغا وتتسم بتدنِّي الأجور والإنتاجية.
وتدير النساء، في العادة، مشروعات في قطاعات أقل إنتاجية، ويزداد احتمال عملهن في وظائف مُؤقتة غير متفرغة ذات إمكانيات أقل للترقِّي مقارنة بالرجال. ويتركَّزن في الأنشطة “غير المنظورة” مثل الأعمال المنزلية والعمل بلا أجر أو العمل في القطاع غير الرسمي في وظائف تفتقر إلى الأمان ولا تُغطِّيها قوانين العمل.
وحول عمل النساء في ميادين ذكورية، اعتبر عالم الاجتماع المغربي علي الشعباني أن الأمر ظاهرة جديدة فرضها التطور الذي يشهده العالم بأكمله وليس العالم العربي فقط.
وقال الشعباني إن هذه الظاهرة إيجابية وأن هذا التطور يصب لصالح المجتمع، مشيرا إلى أنه يعتبرها بمثابة انفتاح على تقاسم الأدوار النمطية التي عرفها المجتمع في السابق.
وأكد الخبير المغربي أن التغيير في تصنيف هذه المهن مطلوب ما دامت المرأة قد أبانت براعتها في ميادين العمل المتعددة. وأضاف أنه ليست الظروف فقط من تملي على النساء تقلد مناصب رجالية، بل إرادتهن وتصميمهن كذلك.
وتعاني المجتمعات من فجوة كبيرة بين الجنسين في ما يتعلق بالمناصب القيادية، إذ تشغل المرأة منصب الرئيس التنفيذي في 5 في المئة من الشركات المدرجة في قائمة “فورتشين 500″، وتتقلد 15 في المئة فقط من مناصب المسؤولين التنفيذيين في هذه الشركات، وأقل من 20 في المئة من مناصب الأساتذة الجامعيين بدوام كامل في العلوم الطبيعية، ونحو 6 في المئة من الشركاء في شركات رأس المال الاستثماري.
ويُرجع باحثون هذه الفجوة إلى نظرة الناس إلى المرأة وإلى التمييز القائم على النوع ضدها. إذ تؤكد الدراسات أن المرأة يُنظر إليها على أنها أقل كفاءة وتفتقر إلى القدرة على القيادة مقارنة بالرجل. ولهذا تتلقى عروضا وظيفية أقل، وتحصل على أجور أولية منخفضة، ويكثر أن تواجه تحديات وتشكيكا في أفكارها وقدراتها. ويُسهِم كلّ من المرأة والرجل على حد السواء في ترسيخ هذه النظرة.
ويسبب الخلل في التوازن بين الجنسين في المناصب القيادية تبعات على كلّ من المرأة والمجتمع على حد السواء. فالمرأة قد لا تصل إلى المسار المهني الذي تطمح إليه.