محاولة في نقد فكرة “التطبيع” في التباساتها وتوظيفاتها..
بقلم: ماجد كيالي
تأسّست السياسة السائدة في المجتمعات العربية، في الأغلب، على الأقوال والشعارات أكثر مما تأسّست على الأفعال والممارسات، وتركّزت على الشكليات بدل المضامين، واستمرأت تعمّد خلط المفاهيم عوض تعيينها أو تمييزها، باعتبار كل ذلك من لزوم العدة المفهومية للسلطات الاستبدادية، التي تعتمد الديماغوجيا والتورية والتلاعب والتوظيف لتعميم مفاهيمها، وترسيخ سلطاتها، وتشريع سياساتها.
يتمثل ذلك، بصورة أوضح، في استخدام بعض الأنظمة الشمولية للقضايا الكبرى: فلسطين والوحدة والاشتراكية، لتخليق جمهورها الخاص، وترسيخ شرعيتها، وتعزيز مكانتها الإقليمية، فيما هي لا تبالي، في حقيقة الأمر، سوى باستمرار سلطتها، وإحكام سيطرتها على المجال العام. هكذا، شهدنا استغلال هذه الأنظمة تلك القضايا لتغطية سياساتها المتعلقة بمصادرة الحريات، وتغييب الديمقراطية، والتورية على الفساد وعلى إخفاق التنمية، وتبرير تغوّل الجيش والأجهزة الأمنية، بادّعاء حماية “الأمن القومي”، ومقاومة إسرائيل، ونصرة فلسطين، باعتبارها “القضية المركزية للأمة العربية”، علماً أن حرب (1973) كانت أخر الحروب (النظامية) العربية ـ الإسرائيلية، ومع معرفتنا أن المقاومة باتت تستخدم أو توظّف في خدمة أغراض سياسية، أو سلطوية، أخرى.
وكانت قضية فلسطين، منذ نشوئها، حمّلت الكثير من المفاهيم والشعارات والادعاءات، الملتبسة والمواربة، من دون التمعّن بجدواها وتوظيفاتها الحقيقية، ويأتي ضمن ذلك استخدام خطاب “مناهضة التطبيع”، في التلاعبات والابتزازات والتوظيفات السياسية لبعض الأنظمة الاستبدادية.
حوادث تطبيعية!
هكذا شهدنا في فترة ما، مثلا، إطلاق تهمة “التطبيع” ضد الروائي البارز الياس خوري(1)، الذي كرّس حياته وأدبه لقضية فلسطين، لمجرّد حوار معه نشرته جريدة “هآرتس” (2)، بمناسبة ترجمة روايته “الوجوه البيضاء” للغة العبرية. علماً أن صاحب رواية “باب الشمس” لم يقدم، في حواره، على أي تنازل، لإسرائيل أو لإدعاءاتها، بل إنه تحدث عن لا شرعيتها، وأوهامها عن ذاتها، وأكد على ضرورة مقاطعتها كدولة وكمؤسسات. وكان الأنسب اعتبار ذلك بمثابة اعتراف بأهمية الأدب والثقافة العربيين، وضمنه الاعتراف بمكانة الياس خوري، المعروف بمواقفه المؤيدة لحقوق الفلسطينيين والمعادية لإسرائيل وسياساتها، إذ أن ترجمة رواية له هو بمثابة اختراق للوعي الإسرائيلي، وليس العكس.
وكان ادوارد سعيد انتقد بشدة رفض ترجمة كتب عربية إلى العبرية، بحجة مناهضة التطبيع، في سؤاله: “أليس لنا ان نعتبر أن زيادة توفر الأدب العربي في اسرائيل تزيد من تمكن الاسرائيليين من فهمنا؟ بدل المشهد المؤسف حيث يندّد كتاب عرب جدّيون بزملائهم الذين “سمحوا” لأنفسهم بـ”التطبيع” مع اسرائيل، وهو تعبير غبي يستعمل بمعنى التعاون مع العدو. وأي “تعاون” هناك في ترجمة كتاب ما إلى العبرية؟ الدخول إلى لغة أجنبية يمثل دوماً انتصاراً للمؤلف. كل هذا الاضطراب والتخبط يشير إلى مرض عربي عميق، نتوهّم أن أعمال التحدي الصبيانية مقاومة حقيقية ونفترض الجهل المتقصّد موقفاً سياسياً”.(3)
واضح أننا هنا إزاء استسهال في إطلاق الاتهامات ما ينمّ، ربما، عن سذاجة عند البعض، أو قد ينطوي على توجهات كيدية، تتعمّد خلط الأمور، عند البعض الأخر، وهو ما حصل، أيضاً، مع الصحفية اللبنانية حنين غدار، التي اتهمت بالتطبيع، لمشاركتها في ندوة نظمها أحد مراكز الأبحاث الأمريكية في واشنطن، شارك في جانب منها مسؤولون إسرائيليون، علماً أن الحلقة التي شاركت فيها خلت منهم، لاشتراطها ذلك سلفاً. (4) وكان الشاعر السوري نوري الجراح تعرّض لحملة مشابهة لمجرد صدور ديوان له («يوم قابيل») عن دار نشر في حيفا، إذ اعتبر بذلك مطبّعاً، ماجعله يدافع عن نفسه، بتأكيده أن صدور ديوانه من «من مدينة فلسطينية تقاتل لأجل هويتها، هو تحية للمقاومة ضد الاستعمار، وفعل مقاومة ضد الاستبداد». (5)
طبعاً، ثمة حوادث كثيرة من هذا النوع تنمّ عن سذاجة أو تخبّط أو خلط أوراق. إذ كان عزمي بشارة منع ذات مرة من دخول لبنان، للمشاركة في ندوة «العرب والعولمة» (نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، 1997)، بسبب ضجّة افتعلها، وقتها، بعض من اعتبروا ذلك تطبيعاً! علماً أن هؤلاء أسهموا في الواقع بالتطبيع، عكس ما يتوخّون، بتغليبهم هوية بشارة «الإسرائيلية» الاضطرارية، على هويته الطبيعية، الفلسطينية والعربية، ناهيك أن مواقفه النضالية لم تشفع له عندهم.
أيضاً، كان الشاعر الفلسطيني محمود درويش تعرّض لحملة من ذات الطراز، بسبب ذهابه إلى حيفا لإقامة ندوة شعرية (2007)، في بلده وبين أبناء شعبه، دون أن تشفع له قصائد: “سجل انا عربي” و”خطبة الهندي الاحمر” و”عابرون في كلام عابر”، رغم أن أشعاره انغرست في وعي أجيال من الفلسطينيين وفي مشاعرهم بأكثر مما فعلت بيانات عديد من الفصائل، إذ اعتبرت هذه الندوة عملا تطبيعياً، عوض اعتبارها تحدياً لإسرائيل، التي تخوّفت من إدراج شعره في مناهجها الدراسية، إبان تولي حزب «ميريتس» وزارة التعليم. وقد لحقت ذات التهمة بالشاعر سميح القاسم، عندما دعي ذات مرة إلى الأردن للمشاركة في مهرجان جرش، إذ اعتبرت زيارته حينها، حتى من قبل فخري قعوار (الأمين العام لاتحاد الكتاب والأدباء العرب-وقتها) كزيارة تطبيعية! وقد رد القاسم على ذلك قائلا: “يضعون زيارتي في إطار التدفق التطبيعي. أنا لا أسمح لأحد أن يربط زيارتي للأردن بزيارة رابين أو نتنياهو”. (6) الأنكى أن الأمر وصل بأحد قادة الفصائل حدّ الدعوة إلى نبذ القرار 194 المتعلق بـ«حق العودة» للاجئين الفلسطينيين، لاكتشافه أن العودة هي إلى إسرائيل، وباعتبار ذلك تطبيعاً و«خيانة»!
في هذه الحال ثمة أسئلة تطرح نفسها، ومثلاً، ماذا بشأن فلسطينيي 48 الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية ويشاركون في انتخاباتها ويدرسون في جامعاتها ومدارسها؟ هل يرتكبون جناية “التطبيع” أو الخيانة؟ هل يبقون في إطار الشعب الفلسطيني أم ينبغي إخراجهم منه؟ ثم هل المطلوب منهم مغادرة أرضهم وبلدهم تحسباً من تهمة التطبيع وتأكيداً على وطنيتهم؟ أيضاً، ماذا بشأن عمل العمال الفلسطينيين من الضفة وغزة في إسرائيل؟ ما هو تصنيفه سياسيا أو وطنيا؟ وهل المطلوب منهم الامتناع عن العمل، وبالتالي عدم تأمين قوت أولادهم، الذي يمكنهم من البقاء والصمود في أرضهم؟ وهل المطلوب أن يتدبّروا أمرهم مثلا في الهجرة إلى الخارج كي يصبحوا لاجئين؟ (7) وبشأن التعامل بين الفلسطينيين بـ «الشيكل» في الضفة والقطاع، وفي شراء السلع الأساسية والطبية من إسرائيل، فهل هذا ضمن التطبيع؟ أخيراً، ما القول في شأن علاج حفيدة إسماعيل هنية في مستشفى إسرائيلي (2013)؟ وهل هذا يعني أنه أو أن حركته «حماس» مع التطبيع؟ (8)
بديهي ضمن هذه المصفوفة، أيضاً، أن يعتبر البعض أي لقاء مع يهود إسرائيليين مناهضين للصهيونية ومؤيدين للحق الفلسطيني، من مثل أميرة هس وجدعون ليفي وايلان بابي، عملاً من اعمال التطبيع، وأن ينسحب ذلك على المشاركة في المنابر الدولية التي يشارك فيها اسرائيليون والتي تعتبر ساحة للصراع من اجل كسب الرأي العام الدولي لصالح الحقوق الفلسطينية.
شبهات حول مناهضة التطبيع
أما بالنسبة للأنظمة العربية فقد تكشّفت مظاهر “مناهضة التطبيع” عندها عن تخبط وتعميم خطيرين. ذلك أن الحظر لم يقتصر على التعامل مع إسرائيل، واليهود الإسرائيليين، إذ أنه شمل مقاطعة فلسطينيي 48، الذين تشبّثوا في أرضهم، وصمدوا فيها، ورفضوا «نعمة» اللجوء إلى البلدان العربية، بحيث منع هؤلاء من زيارة أي بلد عربي، كما أحيط أي تعامل معهم بشبهة الخيانةّ. وبالمحصلة فإن هذا الموقف، غير المفهوم ولا المقبول، طبّع مع إسرائيل، بدعوى مناهضته للتطبيع، إذ لا يوجد معنى آخر للتعامل مع فلسطينيي 48، بتصنيفهم كإسرائيليين، سوى ذلك، علماً أن هذا الموقف يسهم في إضعاف وحدة شعب فلسطين، وفي تفكيك هويته الوطنية، إضافة إلى كونه بمثابة تقدمة مجانية لسياسات “الأسرلة” التي انتهجتها إسرائيل إزاء فلسطينيي 48 لعزلهم عن شعبهم وأمتهم.
من جهة أخرى، ثمة ما يحمل على اعتبار هذا الموقف بمثابة “عقوبة” للفلسطينيين، الذين أسهموا، عبر بقائهم في أرضهم، في تقويض محاولات إقامة إسرائيل كمستعمرة يهودية خالصة في المناطق التي سيطرت عليها (1948)، رغم أنهم عانوا الأمرّين، للحفاظ على ثقافتهم العربية، وهويتهم الوطنية، حيث نشأ من بين ظهرانيهم بعض من خيرة الأدباء والمثقفين العرب، من مثل محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وسالم جبران وأميل حبيبي وإميل توما وصالح برانسي وصبري جريس وحبيب قهوجي ومنصور كردوش وغيرهم كثيرون.
اللافت أن قرار المقاطعة هذا مازال سارياً بدعوى رفض التطبيع، لكأن هذه الأنظمة، التي لا تبالي برعاياها، تريد دفع فلسطينيي 48 نحو “الأسرلة”، ومحو هويتهم الوطنية، من خلال اصرارها على التعامل معهم كإسرائيليين، بدليل أنهم يستطيعون الدخول إلى الدول العربية، التي لها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل بواسطة جواز سفر إسرائيلي! ولعل هذا ما أثار غضب سميح القاسم الذي ردّ على هذه التصرّفات، قائلاً: “نحن العرب الفلسطينيون الأصليون في وطننا نطالب الأمة العربية أن تعتذر لنا لأنها تركتنا كما تترك الأم طفلها وتهرب. وقاطعتنا46 عاما بلا مبرر. أنا عربي فلسطيني. لسنا إسرائيليين من أصل فلسطيني. أنا مواطن في إسرائيل بحكم ظروفي التاريخية التي لم أسهم في صياغتها. وجواز السفر الإسرائيلي لا يعني لي شيئاً على الإطلاق. إنه مجرد وسيلة للانتقال…الجواز الإسرائيلي لا يحولني إطلاقا إلى إسرائيلي.” (9)
وقد يجدر بنا أن نذكر هنا، أيضاً، أن مسألة المقاطعة لم تسر على فلسطينيي 48 فقط، إذ أنها شملت مقاطعة اللاجئين الفلسطينيين عموماً، الذين يتطلب تنقلهم بين بلد عربي وأخر معاملات صعبة وطويلة ومهينة، وهو ما انكشف جلياً في محنة فلسطينيي سوريا، الذين سدّت أبواب الدول العربية أمامهم. ولعل ذلك كله يوضّح المكانة الفعلية لقضية فلسطين لدى الأنظمة، رغم كل ادعاءاتها الحرص على قضية فلسطين، واعتبارها قضيتها المركزية.
إضافة إلى ما تقدم فإن النظام العربي، الذي يتحدث عن رفض التطبيع أسهم عن قصد، او من دونه، في تعزيز مكانة إسرائيل في هذه المنطقة، بتسهيله هجرة يهود البلدان العريبة إليها، بعد إقامة إسرائيل، بإثارته العداء ضدهم، رغم ان هؤلاء لم ينضووا في إطار الحركة الصهيونية، ولم يستجيبوا لنداءاتها لهم بالهجرة والاستيطان في فلسطين في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. ومعلوم أن أكبر هجرة يهودية من البلاد العربية إلى إسرائيل تمت بعد قيامها، بخاصة في أعوام (1948ـ1952)، إذ أن أكثر من 50 بالمئة من المهاجرين اليهود إلى إسرائيل في هذه الأعوام، والذين بلغ عددهم حوالي 700 ألف هم من يهود البلدان العربية. (10)
ويمكن أن يحتسب في إطار التسهيل على إسرائيل، أيضاً، حؤول الأنظمة السائدة دون تمكين الفلسطينيين من إقامة كيان سياسي لهم، في الضفة وغزة، إذ باتت الأولى جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية، وأخضعت الثانية للإدارة المصرية، في حين تمّ تقييد حكومة “عموم فلسطين”، وتهميشها، وطمس وجودها، (11) بالتضافر مع انتهاج هذه الأنظمة سياسة مقاطعة فلسطينيي 48، والتنكيل باللاجئين الفلسطينيين، كما ذكرنا.
لذا، يمكن لنا أن نتخيّل كم كان وجود مثل هكذا حكومة سيوفّر على الفلسطينيين، من جهد وطاقة ومشكلات، وكم كان ذلك سينعكس ايجابياً على وحدتهم، وتشكّلهم كشعب، وعلى انتظامهم في كيان سياسي، وعلى كفاحهم من أجل حقوقهم، مع وجود مؤسسات جمعية، تنمّي قدراتهم وتعزز هويتهم الوطنية، وتمثلهم في الإطارين العربي والدولي.
في ماهية التطبيع والتباساته
لعل كل ما ذكرناه يدلّل على سيادة ثقافة الاستسهال والاتهام والتلاعب في التعاطي مع قضايا الصراع المعقّد ضد إسرائيل، لكن ماهو التطبيع حقا؟ وهل إسرائيل مؤهّلة للتطبيع؟ أو هل تريده وتسعى إليه؟
بداية فإن “التطبيع” يعني كسر الإجماع المتمثّل برفض وجود إسرائيل، وكل تمثلاتها الرسمية، السياسية والأمنية والاقتصادية والقانونية والثقافية، وبالتالي التعامل معها، ومع مؤسساتها. لذلك فإن رفض التطبيع، أو مناهضته، يفيد بالعكس، أي برفض التعامل مع إسرائيل، باعتبارها غير شرعية، ولكونها قامت باغتصاب أرض فلسطين، وتسبّبت بتشريد شعبها، وحرمانه من وطنه وحقوقه، وباعتبار ذلك جزء من استراتيجية وطنية تستهدف تقويض مبررات المشروع الصهيوني ونزع الشرعية السياسية والقانونية والأخلاقية عن وجود إسرائيل.
بيد أن طرح الأمر على هذا النحو يضعنا أمام إشكالية أخرى تتعلق بالتمييز بين الدولة الإسرائيلية والمجتمع الإسرائيلي، أو الإسرائيليين كأفراد، علماُ أن ثمة وجهة نظر ترى بأنه لا يوجد فرق، وأن كل الإسرائيليين صهاينة، ومغتصبون، وجزء من الآلة العسكرية الإسرائيلية. وبديهي فإن وجهة نظر كهذه ترى في أي تعامل على الصعيد الفردي، مع إسرائيليين، ومهما كان الشخص، أو الهدف، عملاً من أعمال التطبيع، ينبغي تحريمه ومناهضته.
وللأسف فإن الحركة الوطنية الفلسطينية، وبسبب افتقادها لإستراتيجية سياسية واضحة، وتغليبها للخطابات العاطفية، وتعظيمها لدور الكفاح المسلح، بدت أكثر انسجاما مع هذا الخط، إذ لم تبذل الجهود المناسبة للاشتغال على المجتمع الإسرائيلي، لتنمية الاتجاهات المتعاطفة فيه مع الحقوق الفلسطينية، أو لاستثمار تناقضات مكوناته: المتدينين والعلمانيين والشرقيين والغربيين، والمتطرفين والمعتدلين، والأغنياء والفقراء.
وقد بدت الحركة الوطنية الفلسطينية، في تبنيها لهكذا منطق، كأنها تخلّت عن ساحة عمل مهمة لها، رغم أنها، في بدايتها، كانت طرحت فكرة “الدولة الديموقراطية الواحدة”، وقدمت نفسها باعتبارها بمثابة حركة لتحرير اليهود من الصهيونية، كما سجّلت «فتح» في بعض أدبياتها أواخر الستينات، الأمر الذي عادت ونكصت عنه منذ أواسط السبعينات، لمصلحة خيار الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة والقطاع. (12) أما منظمة التحرير فإن المجلس الوطني، وهو أعلى هيئة تشريعية فلسطينية، أصدر عديد القرارات، في أوائل السبعينيات، التي تعتبر اليهود الذين كانوا في فلسطين قبل إقامة دولة إسرائيل بمثابة مواطنين فلسطينيين، كما أكد على أهمية العمل على إقامة علاقات مع القوى اليهودية التي تتعاطف مع كفاح الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة. (13) وجرياً على ذلك فقد كانت الحركة الوطنية الفلسطينية في الستينات والسبعينات بذلت جهوداً كبيرة للدخول إلى الهيئات والمنظمات الدولية، لتعزيز التعاطف مع قضيتها، وترسيخ مكانتها، وكانت وقتها تتفاخر بمساجلاتها ضد مندوبي إسرائيل، الذين اضطرتهم إلى مغادرة هذه الهيئات أو المنظمات، باعتبار ذلك مكسباً لها.
طبعاُ، ليس من المنطق السليم ولا من الواقعية إدارة الظهر للمجتمع الإسرائيلي، واعتباره بمثابة كتلة صماء، وصرف النظر عن توجيه الرسائل له، إن لتوضيح الحقوق الفلسطينية، وشرعيتها وعدالتها، أو لدحض مرتكزات العقيدة الصهيونية، والمظالم التي نشأت عنها بحق الفلسطينيين واليهود. وفوق أن ذلك غير مجدي، فهو لا ينم عن نضج سياسي، إضافة إلى أنه يسهّل على القيادة الإسرائيلية التحكّم بالإسرائيليين، وصياغة وعيهم، وتحديد نمط تفكيرهم بالفلسطينيين، ما يضرّ بكفاح هذا الشعب، ويضعف من تأثيره على الإسرائيليين، ناهيك أن هذا الأمر لا يمكّن الفلسطينيين من استثمار التناقضات الإسرائيلية، الكثيرة والمتنوعة. الأهم من هذا وذاك أن هذا الأمر يساعد إسرائيل على تعزيز فكرة عند الإسرائيليين مفادها أنهم يعيشون في محيط معاد يستهدف وجودهم، الأمر الذي يفترض منهم التخفيف من شأن التناقضات الداخلية بينهم، والتوحّد إزاء التحديات الخارجية.
الحاصل أن هذا الوضع شكّل أحد مكامن ضعف استراتيجية حركة التحرر الفلسطينية، إذ لا توجد حركة وطنية تقاتل المستعمر بدون أن تشتغل على مجتمعه، بكافة الأشكال، لمفاقمة تناقضاته واستثمارها، ولتوسيع دائرة المتعاطفين معها، وإيجاد أشكال عمل مشتركة مع القطاعات المناهضة للاستعمار والعنصرية، كما حصل في تجربة الكفاح ضد نظام الفصل العنصري (السابق) في جنوب افريقيا. هذا مع التأكيد بأن الهدف من ذلك ليس الخضوع لمنطق الصهيونية، ولا التعايش مع واقع الاحتلال، وإنما الإسهام بتقويض الرواية الصهيونية، وتفكيك المؤسسات الإسرائيلية، وخدمة هدف التحرر الفلسطيني. وبهذا الصدد، فقد كان الأجدى للحركة السياسية الفلسطينية أن تتمسّك بمقولاتها الأولية عن استغلال الصهيونية لليهود، واعتبار تحريرهم من الصهيونية جزءاً من معركتها، وضمنه توضيح أهدافها للمستقبل، لاسيما توخّيها اقامة دولة واحدة ديمقراطية وعلمانية في فلسطين، كحل للمسألتين اليهودية والفلسطينية. كما كان الأجدى لها التمسك بمشروعية بذل الجهود للتأثير على المجتمع الإسرائيلي بكافة الاشكال، أي بوسائل العمل السياسي والإعلامي والمقاومة الشعبية والمسلّحة؛ وفقاً لمنظور واضح، أو لاستراتيجية تتأسس على التعايش في دولة واحدة ديمقراطية، لمواطنين احرار ومتساوين، سواء كانت على شكل دولة مواطنين أو ربما ثنائية القومية” في مراحلها الأولى.
ومما يثير الاستغراب هنا تبنّي البعض لإستراتيجية الدولة الواحدة وبنفس الوقت اعتبارهم أن أي تعامل مع إسرائيلي كفرد او كطرف مناهض للصهيونية عملاً من أعمال التطبيع، بدل اعتبار ذلك من موجبات تحقيق هذه الاستراتيجية، ما ينمّ عن تناقض وعدم اتساق سياسي، ما يطرح التساؤل: مع من ستقوم هذه الدولة الواحدة إذن؟ وكيف ستقوم بدون تخليق حراكات مشتركة مع المجتمع الأخر، أو مجتمع العدو ذاته؟
القصد أن التأكيد على مشروعية مقاطعة إسرائيل ومؤسساتها الحاكمة، وصولاً إلى نزع الشرعية عنها، في إطار الصراع معها، باعتبارها دولة عنصرية واستعمارية واستيطانية ودينية، لا يتناقض مع إقامة علاقات مع الشخصيات والهيئات غير الرسمية المعادية للفكرة الصهيونية، والتي تقطع مع ممارسات اسرائيل العنصرية والاستعمارية، إزاء الفلسطينيين، والتي تبدي تعاطفا مع حقوقهم، بل إن ذلك يعتبر أمراً مشروعاً، ومطلوباً وفي صميم العملية الصراعية ضد إسرائيل. إذ أن هذه العملية بالذات هي التي تفسح مجالاً أو أفقاً، ولو مستقبلياً، للنضال المشترك، من أجل قيام دولة مواطنين متساوين وأحرار، وهذا هو معنى الصراع على “المخيلة”، الذي كان تحدث عنه ادوارد سعيد، بقوله: “إذا كان لنا كلنا أن نحيا، فعلينا ان نستحوذ ليس على مخيلتنا فقط بل على مخيّلة مضطهدينا، وأن نلتزم القيم الانسانية والديمقراطية”. (14) وهذا ما يحاول اشخاص مثل جدعون ليفي وعميره هس وايلان بابه وايلا شوحط واوري ديفز وابراهام بورغ وافي شلايم وشلومو ساند وغيرهم الاشتغال عليه، من خلال سعيهم لتغيير وعي الإسرائيليين، لاسيما وعيهم للفلسطينيين ولعدالة قضيتهم. بل إن ادوارد سعيد كان حضّ باستمرار على محاورة المثقفين الإسرائيليين الذين ينبذون الصهيونية ويتعاطفون مع قضية الفلسطينيين، وبرأيه فإنه ينبغي “دعوتهم الى النقاش في الجامعات ومراكز الثقافة والمنابر العامة في العالم العربي. واجبنا كمثقفين مواجهة الأوساط الثقافية والأكاديمية الاسرائيلية، عن طريق القاء المحاضرات في المراكز الاسرائيلية، في شكل علني وشجاع وواضح الالتزام..حان الوقت لتخليص أنفسنا من التحامل العنصري ودفن الرأس في الرمل والبدء من الآن بالعمل لتغيير وضعنا”. (15) ومن الواضح هنا أن ادوارد سعيد في مقالته هذه لا يدعو للاعتراف بإسرائيل ولا لإقامة علاقات طبيعية معها، وإنما إلى تعزيز معرفتنا عن إسرائيل، والتأثير في وعي الإسرائيليين.
جدير بالذكر أن إسرائيل كانت شهدت نمو ظواهر، في أوساط اليسار السياسي والأكاديميين والمفكرين، نشأت على إبداء التعاطف مع الفلسطينيين، وتبني مطالبهم، وتفنيد الرواية الإسرائيلية للنكبة، وضمن ذلك، مثلاً، منظمة «الماتسبن» وحزب مابام وحركة ميريتس اليسارية العلمانية وعديد من المنظمات الحقوقية ومنظمات الدفاع عن حقوق الانسان مثل”بتسيليم”. ومعنى وجود هذه الظواهر انه يمكن البناء عليها وتطويرها واستثمارها في تدعيم حقوق الفلسطينيين وتأكيد عدالة قضيتهم. (16)
عموماً فإن محاولة تجنّب أضرار الخلط والشطط والتلاعب في التعاطي مع مسألة مناهضة التطبيع، لا يمنع من الإشارة، أيضاً، إلى ضرورة تجنّب الابتذال أو التعامل بخفّة، ومن دون دراسة، في التعاطي مع ذات الأمر. نقصد هنا أن ثمة فرق بين التعامل مع الإسرائيليين بغرض تعزيز تفهمهم لقضية فلسطين وكفاح شعبها، وبين التعامل معهم لإقناعهم بأننا أصبحنا أكثر تماثلاً مع اعتباراتهم، وأكثر قبولاً لإملاءاتهم. ومثلاً، فإن المشاهد “الحميمية”، المتضمنة مصافحات مع ابتسامات، بين المفاوضين الفلسطينيين والإسرائيليين لا تفيد، بل إنها تؤذي مشاعر الفلسطينيين، وتثير الاحباط بينهم، وتعطي انطباعات خاطئة في العالم بأن الخلافات القائمة ليست ذات قيمة ولا تستحق.
ويأتي في هذا الإطار، أكثر من أي أمر آخر، قيام الرئيس الفلسطيني بتحويل مقر الرئاسة في رام الله إلى قاعة للمحاضرات التي يلقيها بذاته على مجموعات من الشباب الإسرائيليين، والتي تبدو عموما بمثابة أعمال استعراضية، وتنم عن تبسيط للسياسة، فضلاً عن أنها ليست مهمة الرئيس. ويمكن أن نذكر هنا، مثلاً، كلامه، في اللقاء الأخير (أيار/مايو/2014)، عن أن التنسيق الأمني مع إسرائيل شيئا مقدساً، ومطالبته الدول العربية التطبيع مع إسرائيل، واعتبارها ليست عدواً، وهو كلام غير مفيد، ومجاني، ولا يقنع احداً، ولا حتى الإسرائيليين، فضلا عن أنه يؤدي إلى زعزعة ثقة الفلسطينيين في قيادتهم ويحبط من عزيمتهم الكفاحية، لاسيما ان إسرائيل لا تبدي أي تغير أو مرونة في تعاطيها مع حقوقهم، بل إنها تقوم بكل ما من شأنه امتهان القيادة الفلسطينية ذاتها. وفي هذا الإطار فقد كان كلام أبو مازن مثيراً للدهشة لاسيما في حديثه عن رفض حل الدولة الواحدة وتمسكه بحل الدولتين، في واقع يعرف الجميع أن هذا الحل بات مغلقاً، بدليل عقم عقدين من الزمن على اتفاق اوسلو، وتمسك إسرائيل بهيمنتها على الضفة الغربية والقدس. (17)
لذا ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن الطريقة التي تدير بها القيادة الفلسطينية هذا الأمر تستحق المراجعة والنقد والتنديد، بما في ذلك خطاباتها المرسلة، إذ شتّان بين فتح الحوار مع الإسرائيليين، وفق مفاهيم تحسين الثقة، وتأكيد الأهلية للتسوية، وإبداء التنازلات السياسية، والقبول ببعض جوانب الرواية الإسرائيلية، وبين الحوار معهم بغرض اقناعهم بعدالة ومشروعية الحقوق والمطالب الفلسطينية، والحق في الكفاح بكافة الأشكال الممكنة والمناسبة، لاستعادتها، وضمن ذلك ايجاد مشاريع عمل مشتركة تخدم استراتيجية التحرر من الصهيونية ومن تعبيراتها الاستعمارية والعنصرية.
الفكرة في إشكالياتها
على ضوء كل ذلك فإن التصدّي لسؤال التطبيع يستلزم التمييز، وليس الخلط، بين ضرورة ومشروعية توطيد الاتصالات بفلسطيني 48، والتعاطي مع الإسرائيليين (اليهود) كأفراد أو كجماعات، في محاولة التأثير عليهم، لفك ارتباطهم بالصهيونية وتعزيز فهمهم للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وبين مناهضة التعامل، أو التطبيع، مع إسرائيل كدولة وكمؤسسات، وضمنه قبول روايتها للمكان والزمان الفلسطينيين. فبينما يفيد التعامل الأول بتدعيم صمود الفلسطينيين وتطوير مواقف القوى اليهودية المعادية لإسرائيل الاستعمارية والعنصرية والدينية، وإيجاد مشتركات مستقبلية معها (وإلا فلا معنى للحديث عن خيار الدولة الواحدة الديمقراطية)، فإن الموقف الثاني يفيد بضرورة الاستمرار في عزل إسرائيل وتفنيد أطروحاتها وفضح ادعاءاتها الأيدلوجية، ومقاومة سياساتها العنصرية والاستعمارية، ما يصبّ في الاستراتيجية الرامية لتقويض الصهيونية ونزع الشرعية عن كيانها ـ إسرائيل
أيضاً، ينبغي التمييز بين التعاطي الاستجدائي مع إسرائيل والإسرائيليين من أجل تحسين ظروف السلطة، واثبات حسن سلوكها، وبين التعاطي الذي يستهدف تغيير الوعي الإسرائيلي، والذي ينسجم مع مشروع التحرر من الصهيونية الاستعمارية والعنصرية.
أخيراً يبدو ضروريا هنا، مع كل ما ذكرناه، التمييز، وعدم الخلط، بين حملة «المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات» ضد إسرائيل، وصولاً إلى نزع شرعيتها، من جهة، وما يسمى مقاومة التطبيع من الجهة الأخرى. فالحملة التي تلقى نجاحاً مضطرداً في أوروبا والولايات المتحدة وكندا، على صعيد المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية لإسرائيل، تأتي في إطار المقاومة الشعبية والسلمية، وتتأسّس على تحكيم معايير حقوق الإنسان والقانون الدولي. وبحسب عمر البرغوثي، وهو أحد مؤسسي حركة «مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها» (BDS)، فإن الحملة التي تقوم بها حركته تستهدف «قطع العلاقات…مع إسرائيل، كونها دولة احتلال وأبارتهايد..كما قاطع العالم جنوب أفريقيا خلال حقبة نظام الأبارتهايد. »، والعمل على «إنهاء احتلال كل الأراضي العربية التي احتلت في 1967، بما في ذلك إزالة المستعمرات والجدار، وإنهاء نظام التمييز العنصري القائم في أراضي 1948 ضد الجزء من شعبنا الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية، وعودة اللاجئين إلى ديارهم الأصلية التي شرّدوا منها». وأن الحملة” تدعو إلى مقاطعة شاملة لدولة اسرائيل ولمؤسساتها المتواطئة في نظامها الاستعماري والاحتلالي والعنصري. وهي تشمل مقاطعة وسحب الاستثمارات من الشركات العالمية المتورطة في الجرائم والانتهاكات الإسرائيلية ضد شعبنا..المقصود بالمقاطعة هو الدولة الإسرائيلية وكل مؤسساتها الأكاديمية والثقافية وكل الفعاليات والمهرجانات والمؤتمرات التي تنظم من قبلها أو بالتعاون معها». (18)
واضح أن ماهو مكتوب محدّد وملموس في وسائله واستهدافاته، وأنه لا يحمل اللبس او الخلط، عكس الكلام المرسل والعمومي عن التطبيع هذه الأيام، الأمر الذي يفترض التمييز بين المقاطعة ونزع الشرعية من جهة، وخطابات مقاومة التطبيع، لأنهما شيئان مختلفان، لا سيما أن الثانية تبدو جزءاً من «العدّة» المفهومية لجماعة «المقاومة» و «الممانعة»، أي أنها مطلوبة للادعاء والابتزاز والاستهلاك.
ولعل أكثر ما ينبغي التنبيه إليه في هذا الموضوع هو أن التطبيع مع إسرائيل ومؤسساتها، إنما هو من الناحية العملية أمر سيادي، بمعنى أنه من اختصاص الدول، دولة مقابل دولة، وليس في مقدور أفراد، أي أن الأنظمة هي التي تتحكم بالتطبيع، أو بعدمه، لأنها هي التي تتحكم بالمجال العام المجتمعي والسياسي.
وربما أنه بسبب كل هذا الخلط والتخبط انتقد ادوارد سعيد بشدة ما يسمى “مقاومة التطبيع”، ووصم بكلمات قاسية المثقفين الذين يتبنون هذا المفهوم الملتبس، وعنده “ليس هناك أي تبرير منطقي لاتخاذ الجهل سياسة أو استعماله سلاحاً في الصراع. الأفضل والأذكى من لعن اسرائيل هو التعاون مع القطاعات فيها التي تدافع عن الحقوق المدنية وحقوق الانسان، وتعارض سياسة الاستيطان، وتخاطر باتخاذ موقف ضد الاحتلال العسكري، وتؤمن بالتعايش والمساواة”. (19)
جانب أخر ينبغي الانتباه إليه، وهو أن فكرة التطبيع في المنطق الداخلي لأصحابها، تنطوي على تناقض بيّن، بين اعتبارهم إسرائيل دولة عنصرية، ودولة “غيتو”، تميل إلى الانغلاق، وعدم الاعتراف بالآخر، والاستعلاء والهيمنة، في هذه المنطقة، وبين الاعتقاد بأنها تسعى إلى التطبيع (بما فيه التطبيع المجتمعي ـ أفراد لأفراد)، لأن ذلك يفيد باستعدادها للانفتاح، وقبول الآخر، والتحول إلى دولة عادية. إذ أن النظرية الأولى تفترض عدم قابلية إسرائيل للتطبيع، وتخوّفها منه، لأنه قد يفقدها خاصّيتها باعتبارها ذاتها دولة يهودية، وباعتبارها هنا الأقلية، لا الفلسطينيين، أو العرب الذين لديهم لغة وثقافة وتقاليد وحضارة ضاربة في التاريخ.
لذا فإنه من المستغرب في هذا المنطق أنه يقول الشيء ونقيضه، وأنه فوق ذلك ليس فقط يتجنّب ساحة صراع اساسية هي المجتمع الإسرائيلي، وإنما يبدي تخوّفاً من ما يسميه اختراق اسرائيلي للثقافة العربية، في وقت يفترض فيه أن إسرائيل هي التي ينبغي ان تتخوّف من هذا الاحتكاك او الاختبار الثقافي. وقد عبر الشاعر سميح القاسم عن ذلك قائلاً: “الفلسطينيون الذين فضّلوا البقاء في الداخل لم تستطع إسرائيل تذويبهم أو تجريدهم من انتمائهم العربي على مدى 16 سنة.” ويتساءل: “أي ثقافة لدى إسرائيل تستطيع أن تهزم ثقافتنا العربية، أن تغزو المتنبي والبحتري وطه حسين؟ المعادلة الثقافية في إسرائيل ضعيفة في مواجهة المعادلة الثقافية العربية. إن 50 في المئة من سكان إسرائيل مجموعات بشرية (يقصد عرب ويهود) تنتمي عمليا للحضارة العربية-الإسلامية، يسمعون أم كلثوم ووديع الصافي وعبد الوهاب، ويأكلون الطعام العربي، ويتكلمون العربية في بيوتهم. أما النصف الآخر فليس لديهم مقومات ثقافة…46 سنة ونحن معزولون (يقصد فلسطينيو 48) ومحاصرون حصاراً مزدوجاً..لم يتمكنوا من اختراقنا ثقافياً وحضارياً، ولم يتمكنوا من إلغاء هويتنا العربية والحضارية” (20). اللافت أن ثمة عديد من الكتاب اليهود في إسرائيل يتوافقون في ذلك مع القاسم بشأن تأثر مجتمعهم بالعادات والثقافة العربية. مثلاً، فبرأي الكاتب اليهودي نعيم قطان فإن “إسرائيل تعيش في ازدواجية لأنها محاطة بالشرق أرضا وتقاليد..العربية…ستكون لغة الجميع” (21). وعند أيال سيفان فإن “إسرائيل قوة اقتصادية وعسكرية، ولكنها كأقلية في الوطن العربي عاجزة عن أن تفرض ثقافتها.” (22)
التطبيع إسرائيلياً
ليس القصد مما ذكرناه الايحاء بأن إسرائيل ضد التطبيع تماماً، وإنما القصد منه التنبيه إلى ضرورة تدقيق مفاهيمنا وتعزيز معرفتنا بطبيعة هذه “المعركة” وحدودها وأدواتها، ذلك أن إسرائيل تتوق للتطبيع لكن وفق مفاهيمها وأولوياتها وحاجاتها، أي ليس وفقاً للمفهوم المبسط والشائع عربياً، سواء لدى المناهضين له أو الموافقين عليه. والمعنى أن إسرائيل تتوق للتطبيع (23) الذي يتأسس على:
اولاً، اعتراف الدول العربية بها، وإقامة علاقات طبيعية معها، ما يتضمن تبادل سفراء وإقامة علاقات سياسية واقتصادية وأمنية، مع تعاون في اقامة منظومة مشتركة من البنى التحتية المتعلقة بالاتصالات والمواصلات والطاقة والمياه، فضلا عن فتح الحدود لاتاحة التنقل بحيث يكون للإسرائيليين مجال بري يخرجهم من عقدة الانحصار في المجالين الجوي والبحري.
ثانياً، الاعتراف بالرواية الإسرائيلية لتاريخ هذه المنطقة، وضمنه السردية اليهودية عن “أرض الميعاد”، وحق اليهود في اقامة دولة لهم، وهذا هو مغزى المطالبة بتغيير المناهج التعليمية في البلدان العربية، وطلب إسرائيل الاعتراف بها كدولة يهودية حصراً.
ثالثاً، القبول بتجاوز العناصر الاساسية للقضية الفلسطينية، لا سيما منها قضية اللاجئين الفلسطينيين، والانتهاء من “حق العودة”.
من كل ذلك يمكن الاستنتاج بأن إسرائيل تريد التطبيع على أن يكون ذلك بينها كدولة وبين الأنظمة العربية، أي أنها ليست متحمسة لانفتاح المجتمع الإسرائيلي على المجتمعات العربية، لأن ذلك يتناقض مع رؤيتها لذاتها كدولة يهودية، وانغلاقها على نفسها إزاء “الأغيار”، من الفلسطينيين والجوار العربي، كما يتناقض مع اشتغالها على إعلاء شأن الهوية اليهودية عند مواطنيها، وتعزيز مركزية الصراع ضد العرب، الأعداء، في وعيهم. وتفسير ذلك أن التطبيع بالمعنى الشائع للانفتاح والاندماج قد يهدد هويتها اليهودية وثقافتها، ليس فقط بحكم القوة العددية العربية، وانما بقوة الثقافة العربية التي هي، اصلا، جزء من ثقافة حوالى 50 في المئة من الاسرائيليين اليهود الشرقيين.
وقصارى القول، فإن طلب إسرائيل على التطبيع لا يعني أنها معنيّة بتطبيع علاقات الإسرائيليين مع الفلسطينيين، بالتالي مع السوريين والمصريين والأردنيين واللبنانيين، بدليل إصرارها على طلب الاعتراف بها كدولة يهودية، واعتبارها ذاتها امتداداً للغرب في الشرق الأوسط، لا دولة شرق أوسطية، وحثها الخطى للانفصال عن الفلسطينيين، عبر بناء الجدار الفاصل وإقامة طرق خاصّة تفصل يهودها عن فلسطينيي الضفة، وبدليل تمييزها حتى ضد فلسطينيي 48 من المواطنين فيها، وأخيرا بدليل تجاهلها عرض الملوك والرؤساء العرب: “السلام مقابل التطبيع”، في قمة بيروت (2002).
فوق ذلك فإن العقلية الصهيونية التي رفضت انفتاح الغيتوات واندماج اليهود في مجتمعاتهم في اوروبا، لا تقبل ذلك في هذه المنطقة، لأن ذلك يتناقض مع طبيعتها، ومع رؤيتها لذاتها، ولأنها ترى فيه خطراً على الدولة اليهودية قد يؤدي الى فقدانها هويتها وتمايزها، ما قد يفضي إلى استيعابها، او ذوبانها، وانتهاء خصوصيتها، كغيتو يهودي في الشرق الأوسط.
إذا ضد التطبيع مع إسرائيل، الاستعمارية والعنصرية والمصطنعة والوحشية، ومع بذل الجهود لمقاطعتها وعزلها وفرض العقوبات عليها ونزع الشرعية عنها، وفي نفس الوقت مع مزيد من العمل للتأثير في المجتمع الإسرائيلي، لتقويض العقيدة الصهيونية، وتغيير وعي الإسرائيليين، باعتبار ذلك جزءا من استراتيجية التحرر، المتضمنة ايجاد حل للمسألتين الفلسطينية والإسرائيلية، وباعتبار أن قضية فلسطين ليست مجرد قضية صراع على الأرض وإنما هي، أيضاً، تتعلق بسيادة قيم الحرية والكرامة والعدالة والمساواة.
هوامش:
1 ـ راجع: عماد خشان: “الياس خوري وهآرتس”، “الأخبار” اللبنانية، 3/5/2014. و”الياس خوري روائيّاً مدلّلاً في إسرائيل”، مغفل اسم الكاتب، في “البناء” اللبنانية، 14/5/2014.
2ـ نص الحوار باللغتين الانكليزية والعربية في الرابطين الآتيين: http://archipelagobooks.org/elias-khoury-interviewed-by-haaretz/، و http://www.dar.akhbarelyom.com/issuse/detailze.asp?mag=a&field=news&id=7951 في: “أخبار الأدب” ـ أخبار اليوم المصرية، 1/5/2014. وكان الياس خوري واضحاً في قوله: «الإسرائيليون ليسوا معنيين بالسلام أبداً وعملية السلام هي خيال. إسرائيل تمر بتلك الظاهرة التي نراها في المنطقة وهي التطرف الديني..» و«النكبة. عملية مستمرة. حتى الآن. الإسرائيليون لا يحبون اسمهم. لم يأخذوا أرضهم فقط وإنما أخذوا اسمهم أيضاً». و«على الإسرائيليين أن يشعروا بالهزيمة. المجتمع الإسرائيلي لديه إحساس أنه لن يُهزم، وهذا نوع من جنون القوة. إن لم يفهم الإسرائيليون أنه من الممكن هزيمتهم فلن يتغيروا». أما عن موافقته على الحوار وترجمة كتابه إلى العبرية فقد أجاب: «أنا مع المقاطعة، ولكنني لا أقاطع الأفراد أو الصحف.
3 ـ ادوارد سعيد: “عن التحدي والكرامة والدغمائية”، “الحياة”، 23/5/2001.
4 ـ حنين غدار صحافية لبنانية تنافس باراك في واشنطن، “الأخبار” اللبنانية، 12/5/2014.
5 ـ نوري الجراح: “فن الشعر وفن الاستبداد”، “العرب” اللندنية، 16/2/2014. http://www.alarab.co.uk/?id=15484
6 ـ سميح القاسم، من مقابلة أجرتها معه مجلة الهدف، دمشق، 5/2/1995.
7 ـ بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، ثمة أكثر من مئة ألف عامل فلسطيني يشتغلون في القطاعات الاقتصادية الإسرائيلية، وهؤلاء يعيلون مئة الف عائلة، أو قرابة ربع مليون فلسطيني. عن جريدة “الأيام” رام الله، 7/5/2014.
8 ـ القدس العربي، 20/11/2013؟ وكانت الجريدة ذكرت بأن “الطفلة الرضيعة (آمال)، حفيدة هنية والطفلة الوحيدة لنجله الأكبر، عبد السلام.. أصيبت بـ”عدوى خطيرة في جهازها الهضمي، أصابتها بحمى شديدة، وأثرت على جهازها العصبي، وتسببت بأضرار فادحة في الدماغ، حتّى دخلت في حالة الموت السريريّ”.ما استدعى نقلها لتلقي العلاج في مستشفى إسرائيلي”.
9ـ سميح القاسم، مصدر سبق ذكره. وفي ذات الإطار، أيضاً، كان مروان دويري (عالم نفساني يدرّس في جامعة كولومبيا) أطلق صيحة غضب مشابهة لصيحة القاسم عبّر فيها عن دهشته واستنكاره لقيام دول عربية بالتراجع عن دعوته لتقديم محاضرات في جامعاتها بدعوى حمله الجنسية الإسرائيلية، بعد أن أعلن عنه في أحد التقارير الإحصائية عن الأبحاث (2008)، بأنه بين أول عشر باحثين في العالم أثروا موضوع علم النفس الحساس للحضارات والثقافات. يقول دويري: «أبواب دول العالم مفتوحة أمامي إلا أبواب الدول العربية التي أنتمي إلى شعوبها وأنشغل في قضاياها الاجتماعية والنفسية… ليس هذا التعامل موقف جائر فحسب بل هو فجّ وينم عن جهل عميق بتجربتنا الوطنية، وليس فيه موقف وطني ولا قومي ولا يصب في إطار مقاومة إسرائيل…بقاؤنا في وطننا هو الإخفاق الأساسي للصهيونية..”(عن «النهار» 24/4/2012).
10 ـ “الهجرة اليهودية منذ بداية الاستعمار الاستيطاني اليهودي في أواخر الحكم العثماني”، عن وكالة الأنباء الفلسطينية “وفا”، في الرابط: http://www.wafainfo.ps/atemplate.aspx?id=2213
11 ـ لمزيد من الاطلاع على ظروف تشكل هذه الحكومة ومآلاتها راجع: محمد خالد الأزعر: “حكومة عموم فلسطين في ذكراها الخمسين”، إصدار دار الشروق – القاهرة، 1998.
12ـ كانت “فتح” منذ أواخر الستينيات تتحدث عن ذلك، وبهذا الصدد راجع: “وثيقة دولة فلسطين الديمقراطية”، في السفير اللبنانية، 15/1/2013.
13 ـ مثلا، فقد جاء هذا الكلام واضحا في مقررات الدورة الثامنة للمجلس الوطني الفلسطيني (28/2/1971): ” الدولة الديمقراطية الفلسطينية: إن الكفاح الفلسطيني المسلح ليس كفاحاً عرقياً أو مذهبياً ضد اليهود.. ولهذا، فإن دولة المستقبل في فلسطين المحررة من الاستعمار الصهيوني هي الدولة الفلسطينية الديمقراطية التي يتمتع الراغبون في العيش بسلام فيها بنفس الحقوق والواجبات ضمن إطار مطامح الأمة العربية في التحرر القومي والوحدة الشاملة”. عن قرارات المجلس الوطني الفلسطيني ـ وكالة “وفا”، في الرابط: http://www.wafainfo.ps/atemplate.aspx?id=3245. وفي الدورة 13 (آذار 1977) نص أحد قرارات المجلس على: أهمية العلاقة والتنسيق مع القوى اليهودية الديمقراطية والتقدمية المناضلة داخل الوطن المحتل وخارجه ضد الصهيونية كعقيدة وممارسة. (عن وكالة وفا، مصدر سبق ذكره).
14 ـ ادوارد سعيد: “البديل”،”الحياة”، 2/3/2001.
15 ـ “تاريخ جديد…أفكار قديمة”، “الحياة”، 26/5/1998.
16 ـ على سبيل المثال، يقول أبراهام بورغ وكان رئيسا للوكالة اليهودية وللكنيست وأحد قادة حزب العمل سابقاً: “أنا شخصيا أريد الاندماج، أريد أن تكون هناك دولة واحدة مدنية، ومساواة في الحقوق لكل إنسان بين النهر والبحر، أريد أن يكون الحكم في البلاد اشتراكيا أكثر وعلى غرار الدول الإسكندنافية.” (مجلة “قضايا إسرائيلية”، مركز “مدار”، عدد شتاء 2012). وهذا جدعون ليفي يدعو إلى: “تحول خطاب الدولتين منذ الآن إلى خطاب الحقوق: فيا أيها الإسرائيليون الأعزاء هل تريدون احتلالا ومستوطنات – هنيئا مريئا. ابقوا في “يتسهار” وثبتوا أقدامكم في حضن الجبل وابنوا كما تشتهون في “ايتمار”. لكن لا يمكن ألا تمنحوا الفلسطينيين، الذين يُساكنونكم، حقوقا كاملة مثل حقوقكم بالضبط. فليكن الحق متساويا للجميع. هكذا يجب أن يكون الخطاب الدولي. فماذا ستقول إسرائيل بإزاء هذا الخطاب الجديد؟ لماذا لا توجد حقوق متساوية – هل لأن اليهود مُختارون؟ هل لأن ذلك يعرض الأمن للخطر؟ ستنفد سريعا الذرائع وتظهر الحقيقة العارية وهي أن الحق في هذه الأرض محفوظ لليهود فقط. ولا يمكن السكوت على مثل هذا الخطاب. وفي مقابل ذلك يجب تغيير معاملة إسرائيل؛ لأنه ما لم تدفع ثمن الاحتلال وما لم يعاقب مواطنوها عليه فلن يبعثهم أي سبب على إنهائه أو شغل أنفسهم به أصلا. ” “هآرتس”، 1/6/ 2014. والمعنى أن ثمة قيادات فلسطينية تتحدث بسقف منخفض أكثر من بعض الإسرائيليين.
17ـ راجع النص الكامل لحديث الرئيس مع مجموعة من الشباب الإسرائيليين في مقره في رام اله في جريدة الأيام 29/5/2014. ولمزيد من الاطلاع راجع، ماجد كيالي: “دلالات لقاء الرئيس الفلسطيني بالطلبة الإسرائيليين في الجزيرة نت”، 28/2/2014.
18 ـ عمر البرغوثي: “الكويت استثناء عربي بالتزامها مقاطعة إسرائيل … رسمياً وشعبياً، مقابلة صحفية، “الرأي” الكويتية، 6/11/2013. ايضا في مدونة حركة BDS، 8/11/2013.
19 ـ ادوارد سعيد: “عن التحدي والكرامة والدغمائية”، “الحياة”، 23/5/2001.
20 ـ سميح القاسم، مجلة الهدف، مصدر سبق ذكره.
21ـ نعيم قطان، مقابلة في “الحياة”، 11/11/1994.
22 ـ في ملف عن التطبيع، إعداد حسن م.يوسف، تشرين السورية، 28و29/1/1995.
23 ـ في مؤتمر” قمة التنمية الاقتصادية للشرق الأوسط وشمالي افريقيا”، التي انعقدت في عمان (1995)، في إطار المفاوضات المتعددة الطرف، حصلت مواجهة بين مصر وإسرائيل، إذ وقف عمرو موسى (وزير خارجية مصر آنذاك) مستنكراً المواقف الإسرائيلية التي تطالب فيها إسرائيل