من المكسيك إلى سيراليون الصحافة المستقلة مهددة بالفناء

النشرة الدولية –

في زمن بات الوصول إلى المعلومات الموثوقة مسألة حياة أو موت، تواجه غرف الأخبار والمنصات الإعلامية في جميع أنحاء العالم مصيراً مشؤوماً، فهي تترنح على شفير الهاوية بعد سنة مدمرة عانت خلالها من نضوب الإيرادات وهجمات منظمة طاولت الصحافيين.

ويعاني قطاع الصحافة هذا في الأصل من صعوبات شديدة. إذ تقترن ظاهرة تراجع مبيعات الصحف مع تمنع يظهره الجمهور أمام فكرة تسديد مبالغ مالية للإطلاع على المنشورات الصحافية والإخبارية عبر الإنترنت. وذاك أمر يجعل غرف الأخبار والوسائل الإعلامية الأخرى معتمدة بشكل خطير على الإعلانات التجارية المدفوعة وعلى المتبرعين.

توازياً، ومع الارتفاع الكبير في أعداد القراء بالنسبة للعديد من المؤسسات الإعلامية على مدى السنة الماضية، إلا أن اضمحلال الأرباح في المقابل أدى إلى شيوع مظاهر تسريح الموظفين والعاملين في تلك المؤسسات، وإلى انكماش في العمليات والأنشطة في مرحلة دقيقة نعيشها اليوم تتفشى فيها الأخبار المضللة والزائفة.

كما يرفع الصحافيون الصوت بدورهم، معلنين أن مصيراً أقسى ينتظرهم بفعل تداخل تدابير الإغلاق العالمية لمواجهة كورونا، مع القيود على السفر، ما ينعكس سلباً على مهام التغطية والمراسلات الصحافية من أرض الواقع، حيث تجري الأحداث. في هذا السياق تقول لـ”إندبندنت” تانيا مونتالفو من المكسيك، وهي مديرة تحرير مجلة “أنيمال بوليتيكو” الإلكترونية، “خسر موقعنا تقريباً كل زبون خاص يريد نشر مادة إعلانية تجارية، وتأثير هذا في إيراداتنا من الإعلانات كان كارثياً. لكن في المقابل فإن الإقبال على تصفح الموقع ارتفع بشكل كبير”.

المجلة الإلكترونية المذكورة (أنيمال بوليتيكو) انطلقت سنة 2011، وهي تسعى لكشف مظاهر الفساد في الحكومة المكسيكية وفضح انتهاكات حقوق الإنسان. كما تحظى المجلة بـ 1.3 مليون متابع على فيسبوك ومليوني متابع آخر على “تويتر”. ويصل عدد قرائها إلى 6 ملايين شخص شهرياً، وتعتبر واحدة من أكثر مصادر الأخبار في المكسيك استقلالية وصدقية. هذا ويتولى معظم المناصب العليا في المجلة المذكورة، نساء.

وعن أوضاع “أنيمال بوليتيكو” اليوم، تتابع مونتالفو حديثها قائلة “بدأ زبائننا يقولون لنا إنهم لا يريدون أن تظهر إعلاناتهم إلى جانب مقالات وتحقيقات تستقصي كل أصناف المساوئ ومظاهر الفساد في هذه البلاد – خصوصاً في سياق تغطيات جائحة كوفيد 19. لذا فإن القلق يساورني إزاء كيفية استمرارنا هذه السنة”.

في الإطار ذاته كان استطلاع أجراه “المركز الدولي للصحافيين” ICFJ في الآونة الأخيرة أورد أن 40 في المئة من المنظمات الإعلامية والمؤسسات الإخبارية، في 125 بلداً حول العالم، قالت إنها خسرت أكثر من نصف إيراداتها سنة 2020، وقد حدد خُمس تلك المؤسسات مقدار الخسائر التي منيت بها بمعدل كارثي، يبلغ 75 في المئة من الإيرادات. ويقدر “المركز الدولي للصحافيين” أن يكون قطاع الصحف والإعلام حول العالم خسر مقداراً حيوياً من العائدات يبلغ 30 مليار دولار أميركي (أي حوالي 22 مليار جنيه إسترليني).

في هذا الصدد تتحدث مع “إندبندنت” نهاد الجابري، كبيرة المحررين في راديو “المربد” في مدينة البصرة العراقية، قائلة “بلغنا الآن نصل السكين – إن لم نحصل على تمويل بحلول الربيع سنضطر إلى وقف العمليات”. وإذاعة راديو “المربد” هذه، حققت شعبية في العراق بفضل برامجها الساخرة، وأيضاً بأخبارها وتحقيقاتها، وقد حظيت بأكثر من 8 ملايين مشترك على قناتها الكوميدية بـ “يوتيوب”.

وتُعد نهاد الجابري، كمحررة أنثى في مجتمع محافظ، رائدة في مجالها، وكثيراً ما تقصدها الصحافيات الشابات والصاعدات. بيد أن السنة الفائتة مثلت نكسة في حياة هذه الصحافية الحاذقة والمتفائلة في الأحوال العادية، وذلك إثر موت والدتها المفاجئ بعد إصابتها بكوفيد 19. وعنها تقول الجابري بصوت متهدج “كانت سندي الأكبر”. وتردف “علينا أن نحرص على جعل الناس يأخذون الفيروس على محمل الجد”.

وتتابع الجابري حديثها عن العمل في “المربد”، فتشير إلى أن الدعم الذي يأتي من المتبرعين يلعب دوراً أساسياً في حفاظ الإذاعة على استقلاليتها التحريرية ضمن المشهد الإعلامي العام المسيّس والشديد التحيّز. كما أن الاقتصاد العراقي الهش والضعيف يعني أن ما يمكن تحصيله من عائدات الإعلانات التجارية ضئيل جداً. وتردف “أفضل أن نغلق المشروع على أن نقبل أموالاً مشبوهة من مصادر فئوية. إذ إن التمويل المستقل هو ما يضمن لـ”المربد” الحفاظ على الموضوعية والتمسك بحق الناس في تلقي المعلومات الصحيحة. لا استقلالية من دون هذا التمويل”.

وكما كان متوقعاً في هذه الأجواء المتلبدة، السائدة عالمياً، فإن المؤسسات الإعلامية والإخبارية الصغيرة والمحلية، التي تقدم معلومات عامة حيوية وذات أهمية كبيرة للجمهور، هي من بين المؤسسات التي تعرضت لأفدح الأضرار. في هذا الإطار، فإن إذاعة “ليون ماونتين راديو” Lion Mountain Radio، المحطة الإذاعية المتمركزة في ضواحي مدينة فريتاون بسيراليون، أُجبرت على تسريح نصف موظفيها بعد تهاوي الإعلانات فيها على مدى السنة الفائتة.

مدير الإذاعة، كيلفن كامارا، يقول لـ”إندبندنت” في هذا الصدد “لا أعرف ماذا سيحصل إن استمر الوضع الراهن. إننا أمام تحد كبير”. وكانت الإذاعة المذكورة حقّقت شهرتها بفضل برنامجها الذي يحمل عنوان “ستاند آب سيراليون” (انهضي يا سيراليون)، الذي يتلقى اتصالات المستمعين ويجيب عن تساؤلاتهم المتعلقة بتدابير الوقاية من الفيروس، ويقدم لهم معلومات حول تلقي العلاج، ويشرح كيفية التمييز بين أعراض كوفيد 19 وأعراض الملاريا. ويذكر كيلفن كامارا “إن توقفت الإذاعة ساعة واحدة عن الإرسال، سيبدأ الناس بالاتصال كي يسألوا عن سبب التوقف”. يردف “الناس هنا يعتمدون علينا لتلقي المعلومات”.

من ناحية أخرى، في أوغاندا، فإن تأثير الأزمة في العاملين في القطاع الإعلامي تسبب بنتائج وخيمة على أنشطة التغطية الإعلامية. وقد واجهت إحدى الصحف المحلية هناك، “ذي أوبسيرفير” The Observer، صعوبة بالغة في انتداب صحافيين لتغطية التظاهرات الضخمة التي انطلقت في نوفمبر (تشرين الثاني) المنصرم إثر اعتقال بوبي واين، المغني الذي غدا رمزاً معارضاً للحكومة. وتلك التظاهرات شهدت مقتل العشرات على أيدي رجال الشرطة.

ثم بعد أشهر من الإغلاق لمواجهة فيروس كورونا اضطر محررو الصحيفة إلى تخفيض عدد الموظفين، والاستغناء مؤقتاً عن الطبعة الورقية. محرّر الصحيفة ديفيد لومو، يقول في مقالة نشرها على الإنترنت بهذا الصدد “هذا كان منتظراً منذ سنوات عديدة. بيد أن جائحة كوفيد-19 شكلت ذروة الكارثة التي كانت تلوح في أفق الصحافة القديمة التي كنا نعرفها”.

وأمام هذه الأزمات التي تعاني منها المؤسسات الإعلامية في أمكنة عديدة، فإن المخاوف المطروحة اليوم مصدرها تعرض الإعلام المستقل للوهن إلى حد يصبح فيه غير قادر على مواجهة الحكومات بفعالية وكفاءة، ووضعها أمام مسؤولياتها، وذاك يخلي الجو لموجة المعلومات المضللة والبروباغندا كي تستحوذ على الرأي العام، وتبث سردياتها أكثر من أي وقت مضى.

إذ إن الحكام المتسلطين والشموليين في هذا الإطار، من الولايات المتحدة إلى البرازيل والهند، وصولاً إلى روسيا البيضاء، قاموا بالتقليل من شأن الفيروس طوال فترة، وحذروا من اتباع التدابير الاحترازية. حتى أنهم دافعوا عن علاجات طبية خطيرة. وتقول تانيا مونتالفو (مديرة تحرير “أنيمال بوليتيكو” المكسيكية) في هذا السياق “عندنا رئيس يقول إنه ليس هناك دليل علميّ على نجاعة كمامات الوجه (للوقاية من نقل الفيروس، أو للحماية منه). وهذا ما نواجهه نحن”. وأضافت “في مؤتمراته الصحافية الصباحية يذكر [الرئيس المكسيكي أندريه مانيويل لوبيز أوبرادور] مراراً وتكراراً إن الصحافيين الذين يكتبون ويغطون أخبار أعداد الوفيات (جراء الجائحة) يحاولون فحسب خلق الفضائح وزعزعة الحكومة، وكأن عملنا هو حلقة من حلقات مؤامرة كبرى ضده”. وكان الرئيس المكسيكي أوبرادور أصيب بكوفيد-19 بعد نحو أسبوعين من إجراء “إندبندنت” حديثاً معه.

ويمكن القول إن الضغوطات الكبيرة على القطاع الصحافي المستقل تُطرح في مختلف البلدان. إذ إن نصف الصحافيين الذين قابلهم “المركز الدولي للصحافيين” ICFJ أشاروا إلى سياسيين ومسؤولين منتخبين على أنهم أكبر مصادر للمعلومات الخاطئة والمضللة.

هذا وتستمر في المقابل الهجمات والاعتداءات المميتة على الصحافيين، بلا رادع أو وازع. وتشير منظمة الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 50 صحافياً قتلوا العام الماضي وهم يقومون بعملهم. وقد اعتبرت المكسيك مرة أخرى أخطر بلد في العالم (لعمل) الصحافيين. لكن أفراد فريق العمل في “أنيمال بوليتيكو”، وعلى الرغم من الخطر الحقيقي المحدق بسلامتهم الشخصية، يقولون إنهم مصممون على الاستمرار في الخوض بالمسائل التي تبتلي منها المكسيك. وتقول تانيا مونتالفو عن هذا الأمر “تركيزنا على مسائل الفساد يحرمنا من الحصول على التمويل الحكومي، على خلاف بعض منافسينا. وهذا في الحقيقة يشكل نوعاً من الرقابة. إذ حين ننشر مقالاً يرتبط بشخص في السلطة، لن نتلقى تمويلاً حكومياً”.

الموقف العدائي هذا من قبل الحكومات تجاه التحقيقات الصحافية الحساسة والدقيقة، ساهم أيضاً في تقليص تقديم “أدوات الوقاية الذاتية” للصحافيين الذين يغطون أخبار الجائحة ومستجداتها. وبحسب بيانات أصدرتها “حملة بريس إمبليم” PEC (حملة الشارة الصحافية) في هذا الإطار فإن 585 صحافياً في أكثر من 50 بلداً، فارقوا الحياة جراء كوفيد بين مارس (آذار) وديسمبر (كانون الأول) المنصرمين.

وبالنسبة للهند، في ظل حكومة ناريندرا مودي القومية، فإن الصحافيين الذين ينتقدون طريقة تعامل الحكومة مع الجائحة تعرضوا لتهديدات بالاعتقال وبإثارة قضايا جنائية ضدهم أو التشهير بهم. أما في حالة نهاد الجابري في العراق فقد رحبت الحكومة المحلية هناك بطريقة تغطية “راديو المربد” لأخبار الجائحة. عن هذا الأمر توضح الجابري قائلة “لقد اعتبرت تغطيتنا مسألة مرتبطة مباشرة بالصحة، ولم ينظر إليها من منظور فئوي. فهم يدركون أهمية دورنا في بث معلومات للجمهور تشرح كيفية وقف انتشار الفيروس وتنقذ حياة الناس”. لكنها تشير أيضاً إلى أن هذا العمل لا يخلو من الخطر، إذ تقوم عناصر المليشيات المسلحة، ذات النفوذ الكبير في العراق، باستهداف الصحافيين والناشطين على نحو مستمر.

واليوم إذ عرّى كوفيد-19 المشكلات البنيوية في أنظمة التمويل التقليدية بالصحافة والإعلام وأنساقها، يقوم البعض بطرح فكرة التمويل الدولي بغية وقف اضمحلال الإعلام المستقل وتجنب موته. في هذا الإطار يقول نيشانت لالواني، المدير الإداري لـ”لومينايت” Luminate، المنظمة الخيرية التي تدعو إلى تمويل دولي لوسائط الإعلام ذات الاهتمام العام، وتحديداً المؤسسات الإعلامية في الدول المنخفضة الدخل، إن “المخاوف التي كنا نبديها في السابق من خطر أن تمثل الجائحة تهديداً وجودياً على وسائل الإعلام، أثبتت أنها في محلها بالفعل”. ويختم “الصحافة قبل الأزمة الراهنة كانت أصلاً تواجه عاصفة هوجاء. ثم جاء كوفيد ليهبّ كإعصار من الفئة الخامسة (عنيف جداً)، متوجاً تلك العاصفة”.

نقلاً عن إندبندنت عربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى