صناعة التطرّف والتخلّف في معاهد تحفيظ القرآن* د. عماد بوظو
النشرة الدولية –
من يشاهد الانتشار الواسع لمعاهد تحفيظ القرآن في هذه الأيام يظن أنها استمرار لتقليد قديم عمره قرون، ولكن الحقيقة أن هذه المعاهد ليست سوى بدعة حديثة عمرها بضعة عقود فقط رغم وجود مراكز لتدريس القرآن وتعليمه وشرح معاني آياته والأحكام المستخلصة منه وأصول تلاوته منذ زمن بعيد، ورغم وجود مبادرات فردية دائما لحفظ القرآن، كما أنه لا علاقة لمعاهد تحفيظ القرآن بالكتاتيب التي انتشرت في البلاد العربية في العصور الوسطى على شكل ركن ضمن المسجد يتعلم فيها الأطفال كما يدل اسمها على الكتابة والقراءة مع شكل بسيط من الحساب.
فقد ابتدأت هذه المعاهد في النصف الثاني من القرن الماضي عندما انتقل تركيز بعض رجال الدين إلى تحفيظ القرآن بدل دراسته وفهم معانيه ومقاصده، فتم افتتاح أول جمعية لتحفيظ القرآن في المسجد الحرام في مكة عام 1962 على يد رجل دين هندي هو محمد يوسف سيتي، وبعد نجاح هذه الجمعية تم بعد سنتين افتتاح فرع آخر لها في المسجد النبوي في المدينة، وبعد سنتين آخرين افتتح مركز ثالث في الرياض، وقال الشيخ خالد بن عبد الله الفواز أنه سرعان ما انتشرت هذه الجمعيات في بقية دول الخليج ومصر والشام والأردن وفلسطين ولبنان واليمن.
ففي الكويت افتتحت وزارة الأوقاف أول دار للقرآن للرجال عام 1971 وللنساء عام 1977، وفي الإمارات تم افتتاح أول مركز لتحفيظ القرآن عام 1974، وفي البحرين تم افتتاح أول مركز في عام 1975، وتزايد إنتشار هذه المعاهد بشكل واسع في عقود الثمانينات والتسعينات في جميع البلاد العربية حتى وصلت أعدادها إلى عشرات الآلاف، ولم يكن هذا الانتشار الواسع عفويا بل وقفت خلفه جهات مثابرة لها أهداف أبعد من حفظ القرآن.
الطرف الأول كان أحزاب وتيّارات الإسلام السياسي التي كانت محرومة من النشاط العلني في أغلب الدول العربية، فوجدت تحت عنوان تحفيظ القرآن طريقة لممارسة نشاطها لا يستطيع أحد الاعتراض عليها، وبما أن هدف هذه التنظيمات الرئيسي تجنيد كوادر في صفوفها فقد استلهمت في عملها تجربة الأحزاب الشيوعية والفاشية والقومية في التركيز على الأطفال والشباب، ففرضت عليهم لباسا خاصا في سن مبكرة بحيث يرتدي الأطفال الجلباب أو الدشداشة وترتدي الطفلات فوق ثيابهن الجلباب والحجاب باعتبارها تعكس الهوية الإسلامية.
كما كانت طريقة التدريس اقتباسا آخر من الأحزاب الشمولية يعتمد على الحفظ والتسليم بدل التساؤل وحب المعرفة والاكتشاف، رغم أن فكرة التحفيظ لم يعد يتقبّلها العالم المعاصر الذي يشجع على العقل النقدي البعيد عن المسلّمات والذي يزرع في الأطفال حب النقاش والحوار والاستنتاج والإبداع للوصول إلى أكبر عدد من الأفكار وبالتالي تعلّم إحترام الآراء المختلفة، وكانت النتيجة تشويه الطفولة وحرمان الأطفال من السعادة والبراءة والعفوية بل زرع مشاعر الكراهية في قلوبهم تجاه كل من يختلف عنهم.
وحققت أحزاب الإسلام السياسي من خلال هذه المعاهد نجاحا لا يمكن إنكاره في إعداد الكثير من الشباب ليكونوا جاهزين للتجنيد في صفوفها بعد إخضاعهم لسلسلة من الاختبارات ينتقل فيها الطالب من مرحلة إلى مرحلة أعلى مع تطور الثقة فيه، حتى يتم في النهاية إختيار نخبة منهم للدخول في الجماعة، وساعد هذه التنظيمات على نجاح مهمتها صعوبة مراقبة هذه المعاهد من قبل الدولة لأن التدريس يتم بشكل رئيسي شفويا وكل ما هنالك أن المتشددين يختارون آيات معينة تتماشى مع فكرهم.
وكذلك لأن العلاقات داخل أغلب الأحزاب الإسلامية لا تتطلب بالضرورة وجود روابط تنظيمية واضحة وتسلسل قيادي واجتماعات دورية، بل تأخذ العلاقة شكل أسرة أو جماعة لها خط فكري واحد تحيط بالعضو وتقدم له مساعدات وخدمات تدفعه للشعور بالانتماء والولاء للتنظيم، كما كانت المعاهد التابعة لهذه الأحزاب شبه مجانية وأحيانا تتكفل باللباس وبقية مستلزمات طلابها لأن لديها أهدافا بعيدة مما زاد من انتشارها في الدول العربية التي تعاني من صعوبات إقتصادية، حيث ليس بإمكان الأطفال ممارسة نشاطات ثقافية أو رياضية بل حتى المنازل تضيق على سكانها، مما جعل هذه المعاهد الفرصة الوحيدة المتاحة أمام الأهل للاستراحة لبضع ساعات من ضجيج أبنائهم.
أما الطرف الثاني الذي روّج لهذه المعاهد فقد كان المراكز الدينية المتحالفة مع الحكام مثل الأزهر في مصر ومعاهد كفتارو في سوريا، الذين عقدوا إتفاقيات مع الأنظمة بعدم التعرض للقضايا السياسية إلّا في سياق تأييد ومدح الحاكم مقابل إطلاق يدهم في أسلمة المجتمع، ولكن من حيث المحتوى كان من الصعب التمييز بين هذه المراكز وتلك التي تديرها أحزاب الإسلام السياسي لأن طروحات الطرفين ورؤيتهما كانت واحدة، مما ساعد في تغلغل أعضاء من تنظيمات الإسلام السياسي ضمن المراكز التي يديرها شيوخ السلطان والترويج لفكرهم بشكل غير مكشوف لأنهم أكثر ثقافة وخبرة وحنكة، ولكن النتيجة كانت تنافس الطرفين في اكتساب قاعدة شعبية عبر نشر هذه البدعة.
ثم إنضم إلى تلك المنافسة طرف ثالث وهم رجال الدين النصّابين، الذين جعلوا من تحفيظ القرآن مهنة وفرصة للتكسّب المادي، وقال تقرير مطوّل في مجلة روز اليوسف المصرية عام 2012 “وسط هذا الطوفان من التدين السطحي الذي نعيشه، تفشّت في مصر ظاهرة التجارة بالقرآن الكريم والقراءات العشر ومنح إجازات بحفظه لكل من هب ودب في الداخل والخارج دون أدنى رقابة أو مرجعية مقابل تسعيرة تصل إلى 45 ألف جنيه”، وذكر التقرير العديد من الأمثلة مع شرح كيفية إستخدام هذه الشهادات في افتتاح مراكز لتحفيظ القرآن في دول خارجية من بنغلاديش وإندونيسيا شرقا مرورا بدول الخليج حتى أميركا وكندا غربا.
وقال تقرير آخر في صحيفة الدستور عام 2017 بعنوان “السوق السوداء لإجازات القرآن في مصر” أن شيوخ وجمعيات وجامعات إسلامية ومواقع إلكترونية إستخدمت السكايب والفيس بوك وحتى التلفون في منح شهادات حفظ وتلاوة القرآن للكسب المادي وتحوّلها إلى بزنس وتجارة علنية ببضعة آلاف من الجنيهات، كما نبّه نقيب المقرئين المصريين محمد الطبلاوي إلى وجود سوق سوداء لإجازات حفظ القرآن، ولكنه أكّد عدم وجود حرمانية في تقاضي الأجر على تعليم القرآن والدليل قول الرسول، إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله.
واليوم بعد مرور خمسة عقود على إنشاء هذه المعاهد اصبح بالإمكان الحكم على ما تركته من آثار خطرة على الأطفال والشباب وعلى المجتمع بشكل عام عبر محاولتها إرجاع المنطقة قرونا للخلف وفي تخريجها جيل جاهل يكره الحداثة والتطور والعلم ويعتمد على الحفظ كبديل عن التفكير وإعمال العقل، وكيف كانت منبرا للإسلام السياسي والمكان الذي تتخرج منه “أشباله” وإرهابيي المستقبل.
كما تأكدت في الفترة الأخيرة أن محاولات إصلاح هذه المعاهد أو تنظيمها لن تنجح مهما بذلت الحكومات من جهود، وأنه لا بديل عن إغلاقها بشكل كامل، لأنها بدعة حديثة دخيلة على الإسلام وتسيء إليه عبر زرع الفكر المتطرف في المراكز المرتبطة بتنظيمات الإسلام السياسي أو تلقين إسلام عصور الانحطاط في معاهد شيوخ السلاطين، وإغلاقها في حقيقته دفاع عن الدين، فلا يفيد أحد حفظ القرآن دون تفكير واستيعاب ولا يستفيد أي مجتمع من تشويه الطفولة أو من زرع مشاعر الغضب في عقول وقلوب الشباب، ولكن هذا يتطلّب قرارات شجاعة ليس من السهولة اتخاذها، فتجربة العقود الماضية أثبتت أن إدخال أي بدعة متشددة إلى الإسلام أمر في منتهى السهولة أمّا إخراجها منه فهو أمر بالغ الصعوبة.