استذكار مؤنس الرزاز في ذكرى وفاته الـ19… نموذجاً للوهج الإبداعي الأردني الذي بلغ شعاعه ومداه المحيط العربي
النشرة الدولية –
شكلت تجربة الأديب الراحل مؤنس الرزاز في سياقات الحالة الثقافية الأردنية نموذجاً للوهج الإبداعي الأردني الذي بلغ شعاعه ومداه المحيط العربي، مثلما حفرت في عمق القضايا الوطنية والمجتمعية الأردنية والعربية.
وعلى امتداد مائة عام من عمر الدولة الأردنية، التي أنجبت قامات ثقافية آثارهم الإبداعية نهلت من عنفوان البيئة الأردنية الخصبة، واشرأبّت من تربتها الطيبة لتمكث في عمق الوجدان الثقافي العربي، صروحاً ما زالت جلية إلى يومنا هذا. ومن بين تلك القامات، استذكر مبدعون ومثقفون أصدقاء للأديب مؤنس الرزاز، الذي صادفت ذكرى وفاته الـ19، الاثنين، الحالة الثقافية والإبداعية، التي كرسها الأديب الراحل الرزاز في مجمل السياق الثقافي الإبداعي الأردني والعربي، التي انسجمت مع سيرته الشخصية كمثقف عضوي ملتصق بهموم وقضايا وطنه وأمته.
وقال عميد كلية الآداب في جامعة فيلادلفيا الأديب والناقد الدكتور محمد عبيد الله “غاب مؤنس الرزاز مبكّرا، لكن إبداعه الرفيع باق وخالد، وكذلك حضوره الثقافي والإنساني الممتدّ”. ونوه الدكتور عبيد الله بأن الأديب والمثقف الراحل تميز بجملة من الميزات قلّ أن توافرت لغيره، منها أن شخصيته وكتابته مثلت شهادة مؤثرة وصادقة على حقبة الصعود القومي في النصف الثاني من القرن العشرين، وما صاحبها من أحلام وانكسارات وانهيارات، واجهها وعبّر عن صعودها وهبوطها، فكانت كتابته الروائية سجلا ثقافيا ووجدانيا وفكريا يعكس تقلبات الفكر، واضطراب الواقع العربي واختلاله.
ولفت إلى أنه في قطاع من كتابته عبّر عن هموم الهلال الخصيب كما يسمّى في الأدبيات الفكرية والسياسية، الذي يشمل بلاد الشام والعراق، فهو أديب هذا الهلال الذي تعرض لاضطرابات وانقلابات وهزائم كثيرة.
مؤنس الرزاز، بحسب الدكتور عبيد الله، هو صوت الهلال الخصيب بلا منازع، بالمعنى النقدي والتحليلي العميق، وكتابته أقوى نصّ أنتجته القريحة الأدبية في هموم الهلال الخصيب.
واعتبر أن مؤنس الرزاز في المستوى الأدبي الصرف أحد أبرز الرواد المجددين الذين يحسبون على جيل الرواية العربية ما بعد الحداثية، من خلال نزعته التفكيكية ورؤيته المتشظية، ذلك أن عالمه المنهار والمشروخ قد تعين في أشكال أدبية بعيدة عن الانتظام والتسلسل، فأسهمت تجربته في تطوير الشكل الروائي العربي عبر التجاوب العميق بين مضامينه وأساليبه الروائية.
ولفت إلى أن الأديب الراحل الرزاز سجل جانبا حيويا من تطور مدينة عمان الحديث في عدد من رواياته فانتقل من الإطار القومي الواسع في أعماله الأولى إلى أعمال تكاد تنحصر في مدينة عمان، وفيها تسجيل عميق لعمان التسعينات ووجوه حيويتها وتطورها الحديث، وانتهى إلى روايات كتابية جوانية ونفسية ومنها سيرته الجوانية، فهذه الرحلة من الاتساع إلى الضيق ومن العام إلى الخاص ومن العالم إلى النفس هي رحلة مؤنس التي عبر عنها أدبه بصدق وانفعال مؤثر، وبتقنيات أدبية عالية.
وأكد الدكتور عبيدالله، الذي له اشتغالات نقدية عديدة على مسيرة مؤنس الرزاز الأدبية، أن أدبه سيظل حيّا لأنه أدب حقيقي، يعانق آفاق العالمية من خلال رؤية مثقفة وحقيقية، فلم تكن الكتابة مهارة صياغة عنده، وإنما هي نتاج رؤيته وسعيه الدؤوب لكتابة شهادة صادقة على أحلامه وأحلام جيله.
وقال صديق الراحل الرزاز، الأديب سعود قبيلات، الذي لازمه طويلا “تمرُّ السَّنوات تلو السَّنوات على رحيل مؤنس الرزَّاز.. ولا أريد هنا أنْ أتحدَّث عن المشروع الإبداعيّ الكبير الَّذي أنجزه مؤنس الرَّزَّاز، فهذا يحتاج إلى حيِّزٍ كبيرٍ.. أكبر بكثير مِنْ هذا الحيِّز المتاح، لكن سأقول فقط إنَّ مؤنس مظلوم جدّاً مِنْ هذه النَّاحية؛ إذ يحظى بشهرةٍ واسعة، تفوق شهرته بكثير، أدباء عرب لا يرقى إنتاجهم الأدبيّ إلى المستوى الإبداعيّ الرَّفيع الَّذي بلغته كتاباته”. واعتبر أن مؤنس ليس أديبا وحسب، وإنما هو الإنسان المميَّز المرهف، الصَّادق، وصاحب القيم والمُثل النَّبيلة، الَّذي كان يمتلك، في الوقت نفسه، فيضاً مِنْ خفَّة الرُّوح والجديَّة الصَّارمة، والإقبال الشَّديد على الحياة والإدبار عنها بالمقدار نفسه من الحماس، ذلك لأنَّه كان يدرك الفرق الكبير بين مجرَّد “العيش” وبين الحياة، وكان يريد الحياة وليس العيش وحسب.
ولفت إلى أن الأديب الراحل الرزاز امتلك في روحه الكثير من الاشتعال، الَّذي كان في روح عرار وغالب هلسا ووليم فوكنر، كما أنَّه اكتوى طويلاً بالحسّ الفاجع، الَّذي كان في روح تيسير السبول وماياكوفسكي.
وقال إن “مأساة مؤنس الرَّزَّاز مأساة جيل كامل عاش عصر التَّنوير، والأحلام المفتوحة على آفاقٍ رحبة، والطّموحات الوطنيَّة والقوميَّة والإنسانيَّة الَّتي لا حدود لها، والاندفاع البطوليّ لإحداث التَّغييرات الجذريَّة المنشودة وصنع المستقبل المأمول، ثمَّ فجأة همد كلّ ذلك الصَّخب والاندفاع والحيويّة، وتوارت الثَّقافة وقيم التَّنوير والأحلام الكبيرة”.
واعتبر الأديب مفلح العدوان أن مؤنس الرزاز روائي محترف يمتلك جرأة الدهشة، مشيرا إلى أنه يشكل في الرواية الأردنية والعربية مفصلا مهما، وإضافة نوعية، في مجال كتابة الرواية والإبداع، فهو أضاف واقترح شكلا جديدا من الرواية، ومن الكتابة، وهو بالإضافة إلى حضوره الثقافي والإبداعي والسياسي، هو صاحب مشروع إنساني عبّر عنه من خلال كتابته للرواية وفي القصة، وفي مقالته اليومية.
وقال إن “مؤنس الرزاز وأنا أكتب عن حضوره وعطائه الإبداعي، رغم غيابه، أستحضره طيفا كان هنا بيننا بطلته المهيبة ومواقفه اللافتة، ومرات أعيد النظر بعمق إلى ما أنجزه من كتابات في مسيرة حياته، ولكني أتوقف أكثر عند أعماله الروائية، محاولا الموازنة بين عوالمه في رواياته التي تتفاوت في أثرها، عليّ كمتلقي، وتفاعلي معها بين حماس واشتباك فكري مع بعضها، وبين إعجاب ودهشة من جرأته في طرح موضوعاته والتعبير عنها بتقنيات وأشكال روائية مختلفة”.
وأوضح أنه بالنسبة له ما تزال روايات مؤنس الرزاز الأولى تشغل مساحة في الذاكرة، بشكل أعمق وأكثر أثرا من بقية أعماله الروائية، إذ أنها تشكل علامة فارقة في منجز مؤنس الإبداعي، لذا يعود إليها بين فترة وأخرى، معيدا قراءتها، ومتواصلا مع أسئلة جديدة وفضاءات مختلفة فيها، رائيا أن أعماله الروائية الأخيرة، مختلفة عن الأولى، وهي تقترح، بطريقة صادمة فضاءات مغايرة، وإيقاعات نفسية تعبر عن مرحلة أخرى من مراحل تشكل وعيه، وبناء روحه، ومدارات آفاقه، ولذا فهي بحاجة إلى قراءة ثانية، مع نظرة بالتوازي إلى كتابته في المقالة اليومية التي أفاد منها كثيرا في هذه المرحلة، إضافة إلى الظرف العام حوله الذي اتسم بالانكسار وتراجع كثير من الأحلام الكبيرة، يتضافر مع تداعيات الحالة وتفاعلاتها النفسية على المستوى الذاتي.
إن ما أنجزه مؤنس، بحسب الأديب العدوان، من إبداع يعكس بصورة مختلفة شكلا ومضمونا، جزءا من وجهة نظره، ورؤيته الإنسانية، وسخريته الجارحة القريبة من الكوميديا السوداء التي عبّر عنها في كتاباته الروائية، كلها في مجملها تعطي هيكلا آخر لكتابات روائية أخرى، تصب في خانة قدرته المميزة كروائي محترف، يمتلك القدرة على التنويع في منجزه الإبداعي.