رسائل من الشاطئ الآخر
النشرة الدولية –
«رسائل من الشاطئ الآخر».. مجموعة رسائل متبادلة بين الكاتب الصحفي المصري حسام عبد القادر والدكتورة دلال مقاري باوش مديرة معهد دراما بلا حدود في ألمانيا.. حول هموم وقضايا مشتركة تهم الوطن بمفهومه الشامل، وتعبر عن كثير من القضايا التي تؤرقنا نحو وطننا وتتحدث عن الغربة خارج الوطن وداخله، خاصة قضايا الهجرة والسفر والهروب عبر البحار والمحيطات لمستقبل غامض على أمل في غد أفضل.
هذه الرسائل الأدبية تذكرنا بجنس أدبي افتقدناه كثيرا وهو أدب الرسائل أو فن الرسائل والذي يعد من الفنون الأدبية القديمة، وهو فن نثري جميل يظهر مقدرة الكاتب وموهبته الكتابية وروعة أساليبه البيانية القوية. والرسالة نص مكتوب نثرا، يبعث به صاحبه إلى شخص ما، كما تعتبر الرسالة الأدبيّة من أهم فنون السرديات؛ حيث تخاطب الغائب وتستدرجه عبر فنيتها ببلاغة الكلمة وقوتها.
الرسالة السادسة والعشرون..
إلى متى سنظل سجناء داخل موروثاتنا وعاداتنا
صديقتي العزيزة دلال
لا أخفيك سرا أن لدي عادة غريبة قليلا وهي التلصص على عادات البشر ومراقبة هذه العادات عن قرب، ثم اتأمل مدى تأثير هذه العادات على المجتمع، لا أعرف متى بدأت هذه العادة ولكن قد يكون طبيعة عملي الصحفي له تأثير كبير في اكتساب هذه العادة، حيث أحرص دائما كصحفي على رؤية ومتابعة ماذا يفعل الناس من عادات، وخاصة لو كانت هذه العادات غريبة أو غير مألووفة، ودائما أخرج بقصص صحفية مختلفة.
وهناك عادات متوارثة من الأجداد نتبعها دون أن ننتبه ونتساءل هل هي عادات صحيحة أم خطأ؟ هل هي صحية أم مضرة؟ ولكننا استسلمنا بشكل غريب لما توارثناه دون تفكير.
ومن أشهر الأمثلة العادات والتقاليد المتعلقة بالزواج، ففي كل مجتمع هناك عادات وتقاليد تحكم العرس وتفاصيله، وعندما تسألين من الذي سن هذه القوانين يردون بكل تلقائية هكذا وجدنا آباءنا، ورغم أن هناك زيجات تفشل بسبب هذه الاجراءات والتعنت من الطرفين إلا أن الجميع لم يفكر في تغيير هذه العادات.
بينما نرى مثلا في الغرب موضوع الزواج أسهل كثيرا وأبسط من التعقيدات التي نضعها على عاتق الأسرتين، ويمكن لأي شاب وفتاة مقبلين على الزواج أن يقوما بتأجير شقة ويتشاركان في دفع الإيجار ويعيشان بباقي مرتبهما ويكونان في غاية السعادة.
غريب أمر هذه العادات المتوارثة يا صديقتي.. وحتى التفاؤل والتشاؤم أصبحا مرتبطين بالموروثات، ولا أنسى عندما علقت على لوحة كولاج من روائعك وكانت بها بومة، فتعجبت وسألتك لماذا تتشاءمين؟ ووجدت علامات الاستفهام والتعجب من عندك، تتعجبين من سؤالي فلا يوجد باللوحة ما يدعو للتشاؤم من وجهة نظرك، ولما قلت لك البومة تدعو للتشاؤم، ضحكت وتعجبت وأرسلت لي بعض المعلومات عن أن البومة هي رمز للحكمة والبصيرة وحاميا للمعرفة المقدسة، وأنها مقدسة عن الإغريق وأنها طبعت على العملة الإغريقية اليونانية كرمز للرفعة والنباهة والرخاء، بينما أعارضك وأقول لك أن البومة نذير شؤم في تراثنا الشعبي، والمصريون لا يحبون البومة.
وعندما اتأمل ذلك أضحك على ما نحن فيه، والمفارقة أن أدياننا لا تدعو لذلك، ومن العادات المهمة التي لاحظتها لدى كثيرين هي الاهتمام بالأبراج بشكل مبالغ فيه، ويسيرون حياتهم على ما تقوله الأبراج، وهناك من يسأل شريك/ شريكة حياته عن البرج قبل الارتباط، فإذا وجد أن برجيهما يتوافقان استمر، وإلا فالفراق، وهكذا هناك من تدور حياتهم على حساب الأبراج، وقبل إجراء أي معاملة يتساءلون عن برج الشخص مثلا الذي سيقابلونه، ويحددون مصير المقابلة.
هل يمكن أن نسير حياتنا بهذا الشكل العشوائي؟ ولماذا نلغي عقولنا؟ والأغرب أن من يفعلون ذلك هم ذوو علم وثقافة، وليسوا محدودي التعليم.
إلى متى سنظل سجناء داخل قوالب الموروثات والعادات وهي بعيدة كل البعد عن واقعنا وليست معبرة عنه؟
في انتظار رأيك دلال لعلي أجد إجابة لديك.
حسام عبد القادر
يسعد أوقاتك كابتن حسام
يحرضنا الفضول، تلك الرغبة الجامحة للإكتشاف، وذلك السؤال القلق الذي يتخبط في أحشائنا كفراشة، يحرضنا للإكتشاف، والمعرفة، والفكر الجديد، لننزع قشور اللوز المر! ولحاء أشجار الحياة ! بحثا عن الحكمة خلف كل الظواهر، ذلك الشوق الأبدي إلى المعرفة (بدوافع نفسية وعاطفية وإجتماعية) يقودنا إلى تصورات جديدة.
محظوظ من يمتلك فتيل البحث المضيء، من حرضه الفضول على إختراق الدوائر الحلزونية، بحثا عن الإختلاف، بحثا عن التقارب.
ومن بومتي رمز الحكمة والمعرفة، أبدأ
هل ذنبي أنني أحب الليل؟
حين أنعق ذعرا! من شؤم الناس
البومة لا تباع ولكنها تحلّق إلى ما تحب ومن تحب أفلا تحبها؟
هذا كان صوت غادة السمان في قصيدتها الرقص مع البوم، كأنني أتخفى في ظلال القصيدة، عشقت البومة حسام، وخاصة البيضاء منها، وتعلمت معها فن السهر وبعد النظر!
أذكر حديثنا عن بومتي في لوحة الكولاج، وكل الحجج المقنعة التي أرسلتها لك لنحرر فضاء البومة من الإتهام!.
قناعات مغايرة تعايشت معها، وخبرات حياتية جديدة، لا شك أنها قد تركت أثرها الإيجابي على أفكاري ومشاعري، لتحلق بومتي الحكيمة خارج أعراف وقناعات كانت سائدة في مجتمعي الشرقي.
كأنني حسام قد تعلمت مبكرة طرائق لإعادة تقييم وتطوير وتغيير الموروثات والقناعات لأصنع واقعي الجديد.
طبعا لا زال يسحرني ويذهلني ويحيرني هذا (الكشف العرفاني من وحي الحياة) حين يتجلى في عادات وتقاليد وأعراف وقناعات، رمزية، تشي ببحث الإنسان عن تجسيد للفكر المتشكل في الحراك الديني والإجتماعي.
تلك الصور والإيحاءات، كأنها المنقذ الرمزي من الذوبان والبحث عن طاقة بديلة، تواجه مجاهيل الصراع الإنساني، لتحقيق الذات في حقول الأبدية.
ألست معي حسام في أن هذه الموروثات هي نتاج فكر إنساني، وتراكم بالخبرات، يحفل بعادات وتقاليد رمزية، ومواقف أخلاقية هي مرآة للعصر والفكر وروح المرحلة.
لكنها أيضا، هذه الموروثات قد إستحالت أحيانا إلى شذرات لا تكتم المشاعر السلبية، أو المواقف غير الإنسانية، أو الآراء المتطرفة والمتعصبة وأحيانا العنصرية!.
حتى أن الأمثال الشعبية يا صديقي أوضح المجاز، في كيفية التفكير وكيفية بناء الحقائق التي نؤمن بها في كل مجالات حياتنا.
فكل مثال هو صورة ورمز ومجاز يوضح أنماط التفكير في البناء الذهني الذاتي أو الجمعي.
معك حق حسام، في أن هناك خطورة تكمن في توارث القناعات السلبية والمحبطة، تلك القناعات التي تمثل بدورها مرحلة متقدمة من رسوخ الأفكار وتراكمها التاريخي، هذه الأفكار النمطية السلبية والمتوارثة، تكونت معظمها في غياب المحصول المعرفي الكافي.
حيث نجدنا متمسكين بقناعات نمطية لا تفيدنا في شيء! أو نستدعيها في حالة الدفاع عن النفس، كي ننجو بالفكر المتوارث، فهل نتأمل في سلوك الموروثات والقناعات النمطية في حياتنا؟ أم نفتش عن القناعة والأفكار خلفها؟
أمد روحي بالسلام، إلى كف غريبة عني! كأنني أحاول التوفيق بين قوى التراث وقوى الحداثة والتجديد، محاولة إلتفافية لإعادة إنتاج تراث الأقدمين بما يتناسب مع الآن وهنا.
أعود إلى بومتي أعلق عليها أمنيات الغيمة في سفر طويل
فاتني أن أقول بإنتظارك
د. دلال مقاري باوش