قريباً…أرشيف تلفزيون لبنان «كنز وطني» على منصة إلكترونية

النشرة الدولية –

الشرق الاوسط- فيفيان حداد –

يحنّ معظم اللبنانيين لفترة الأبيض والأسود، ولـ«تلفزيون لبنان» إحدى أقدم محطات التلفزيون العربية، إذ أبصرت النور في عام 1959. وكبار السن منهم، بشكل خاص، يتذكرون بحنين شخصيات «أبو ملحم» و«أبو سليم» و«أبو المراجل» و«دعيبس» و«شوشو» وغيرهم من نجوم مسلسلات تلك الفترة. تلك الحقبة التي عاشوها وتناقلوا أخبارها مع أولادهم وأحفادهم، تذكّرهم بلبنان في عصره الذهبي. وعندما يخبرك أحدهم عن لحظات ساحرة ومبهرة عاشها تلفزيونياً في 21 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1967 تعرف سلفاً أنه يتكلم عن التاريخ الذي تلوّنت فيه برامج تلفزيون لبنان ومسلسلاته.

لقد كانت المذيعة مي عبد الساتر (منسّى) أول وجه إعلامي يظهر بالألوان الطبيعية على هذه الشاشة. وهو ما ذكره الإعلامي زافين قيومجيان في كتابه «أسعد الله مساءكم». ويومذاك ارتدت ثوباً برتقالياً مزركشاً ابتاعته خصيصاً للمناسبة، من تشكيلة «لوي فيرو» العالمية. ومعها دخلت المحطة عصر البث الملوّن، وحجزت مكانها بين أول 15 دولة في العالم تبث بالألوان.

واليوم، وعبر الشاشة نفسها يتابع كثيرون من اللبنانيين في الأمسيات الملاح، إعادات لتلك البرامج، بينها حوارية فنية وسياسية تعود لنجوم الشاشة خلال عقد الستينات مثل ليلى رستم ونجيب حنكش. وثمة مسلسلات لاقت نجاحاً منقطع النظير كـ«فارس بني عياد» و«حكمت المحكمة» و«المشوار الطويل» و«آلو حياتي» التي شكّل أبطالها كسميرة توفيق وإحسان صادق ووحيد جلال وشوشو وهند أبي اللمع، محطات مضيئة في تاريخ التلفزيون العربي عامة. وبالتالي، فأرشيف هذه المحطة غنيٌّ بمحتوى درامي وبرامجي يعدّ بآلاف الساعات المسجّلة. وهو لا يزال يستقطب هواة اكتشاف هذا الكنز الوطني الفريد.

أسئلة كثيرة يطرحها اللبناني اليوم حول مصير أرشيف تلفزيون لبنان. هل هو يُحفظ بأمان؟ ماذا يملك لبنان من مجمل محتوياته؟ هل تسرّبت من هذا الأرشيف شرائط ومحتويات معينة لا يمكن تعويضها؟ وهل من مخطط أو مشروع يتيح إعادة هذا الأرشيف، إلى الحياة والاستفادة منه مادياً على الصعيد الوطني؟

يرد عثمان المجذوب، مدير الأرشيف في تلفزيون لبنان، على هذه الأسئلة في حديث لـ«الشرق الأوسط» ليؤكد أن «معظم محتويات أرشيف لبنان في الحفظ والصون»، و«أن مشروعاً كبيراً ينتظرها في المستقبل القريب». ويضيف: «لدينا نحو 50 ألف ساعة من المواد الأرشيفية لتلفزيون لبنان. وكنا محظوظين بأنها بقيت موجودة طيلة هذه السنين رغم الويلات والحروب التي شهدناها. وفي المقابل، لم يجر حفظها في أماكن خاصة وبحرارة معينة، ما أثّر على بعضها سلباً فتأثرت جودتها. ولكن منذ نحو 10 سنوات بدأنا بمشروع إنقاذ هذا الأرشيف، وتحويل أشرطته من (بيتاكام) و(2 إنش) إلى الديجيتال (الرقمنة). العملية مكلّفة وتلزمها تجهيزات خاصة وقطع غيار، إضافةً إلى عملية تنظيف يدوية لها. وكما هو معروف فإن أرشيف تلفزيون لبنان بين الأقدم من نوعه بين المحطات العربية في منطقة الشرق الأوسط. وحتى اليوم استطعنا إنقاذ 12 ألف ساعة بعد أن حوّلناها إلى تقنية الديجيتال الحديثة».

ويتابع المجذوب: «هذا إنجاز نفخر به، لا سيما أن هذه الساعات المسجلة تشمل 98% من المسلسلات والبرامج المعروفة في تلك الفترة». وعن مكان حفظ الأرشيف اليوم يقول: «إنها موجودة حالياً في مبنى خاص في منطقة سن الفيل بشرق بيروت. والمبنى مدعّم بالإسمنت وتحت حراسة أمنية على مدى 24 ساعة. كما نملك نسخاً احتياطية عن هذه الموجودات موزّعة في أماكن مختلفة درءاً لأي خسارة قد نتكبّدها، خارجة عن إرادتنا. وجزء من هذا الأرشيف موضوع في خزنة داخل مصرف لبنان». ويوضح المجذوب في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن أرشيف تلفزيون لبنان «يشمل مراحل بث وعروضاً طويلة يعود تاريخها إلى بداية الستينات حتى اليوم… وهناك برامج كثيرة كانت تقدّم مباشرةً على الهواء، فلم تُسجَّل، ولذا فهي غير موجودة عندنا منذ البداية». وعمّا إذا كان هناك، ضمن الأرشيف، تسجيلات للحظات فصلية عن أحداث معينة، عُرضت في نشرات أخبار تلك الفترة يرد: «ما كان يجري تسجيل نشرات الأخبار أبداً. إذ بدأنا بهذا الأمر منذ نحو 5 سنوات فقط. ولذلك فلحظة إذاعة كميل منسّى مثلاً اغتيال جون كينيدي ووفاة جمال عبد الناصر وصعود الإنسان إلى القمر وغيرها من الأحداث الحلوة والمرّة غير محفوظة للأسف».

وحسب عثمان المجذوب، جارٍ حالياً التفكير في مشروع ضخم للاستفادة من هذا الأرشيف. ويشرح: «بصراحة لدينا مشروع استحداث منصة إلكترونية خاصة بأرشيف تلفزيون لبنان. وبذا نتيح لمن يرغب الاطلاع على برامج ومسلسلات حقب تاريخية مختلفة لهذه الشاشة، يتابعها عبر هذه المنصة. قد نكون تأخرنا بعض الوقت عن القيام بخطوة مماثلة، لكننا لم نشأ أن نبدأ في التخطيط لها ونحن غير مزوّدين بالمحتوى المطلوب. كذلك نحاول راهناً تخليص وتحويل أكبر كمية أشرطة ممكنة كي تكون جاهزة للعرض على هذه المنصة. فعملية تحويل الأشرطة إلى الديجيتال متعبة جداً لا سيما أن بعضها مهترئ، ويلزمه عمل مجهد لننظفه ونقوم بـ(مَنتجته). إنقاذ ساعة واحدة من هذا الأرشيف يتطلب منا نحو 48 ساعة من العمل، إلا أننا نعتقد أن هذه المنصة ستشهد رواجاً كبيراً عند اللبنانيين، لا سيما المهاجرين الذين يحبون استذكار تلك الفترة من تلفزيون لبنان».

 نجوم خالدون في الذاكرة

يتذكر اللبنانيون «نجوم» تلفزيون لبنان في فترته الذهبية من إعلاميين وفنانين ويعدّون بعضهم رموزاً وطنية لا تُنسى. ولعل بين هؤلاء كميل منسّى وجان خوري وسعاد قاروط العشّي وعرفات حجازي وعادل مالك وشارلوت وازن الخوري وجاك واكيم. هؤلاء كانوا يطلون مساء كل يوم يقرأون نشرات الأخبار من على ورق يكتبون عليه المحتوى. فيومذاك ما كانت شاشات القراءة للتلقين المباشر «تيليبرومبتر» موجودة بعد. وأيضاً بين هؤلاء من معدّي الأخبار الرياضية ومقدميها أمثال ناصيف مجدلاني ولبيب بطرس.

أيضاً، شكّلت مذيعات الربط محطة أساسية في تلفزيون لبنان، إذ كان المشاهد اللبناني متعلقاً بهن، يتفاءل باستضافتهن عبر شاشته الصغيرة مساء كل يوم. وتعد الإعلامية كابي لطيف واحدة من المذيعات اللواتي تركن أثرهن الطيب لدى المشاهد اللبناني. وحينذاك حققت قفزة نوعية في أسلوب إطلالتها وقراءتها للخبر، إذ كانت عندما تطل تتسمّر العيون على الشاشة، وتراقب هذه الصبية الشقراء النابضة بالحياة والجمال. وحقاً سرقت كابي انتباه المشاهد بنفحتها الشبابية وبصوتها الدافئ منذ إطلالاتها الأولى على هذه الشاشة. وهي تتذكّر تلك الحقبة في حوار مع «الشرق الأوسط»، فتقول: «كنت في السابعة عشرة من عمري عندما دخلت تلفزيون لبنان، وبدأت العمل فيه. وكان ذلك في عام 1973. كان نجوم كثر يلمعون في سماء هذه المحطة أمثال ليلى رستم ونهى الخطيب سعادة وعادل مالك وإلسي فرنيني وشارلوت وازن الخوري وجاندارك أبو زيد وغيرهم. انبهرت بأجواء التلفزيون فكنت أراقب وأتعلم بصمت، وهو ما أسهم في صناعة شخصيتي الإعلامية التي ولدت من رحم تلفزيون لبنان. كنت أتفرج على هؤلاء النجوم وأحاول أن أتعرف إليهم أكثر فأكثر. ثم زوّدني عملي مع الراحل رياض شرارة في برنامج (ناس ونغم) بخبرة كبيرة. كان الناس يتجمهرون أمام مبنى المحطة في الحازمية (شرق بيروت) بالمئات كي يتسنى لهم المشاركة في هذا البرنامج. والمسلسلات، كما البرامج، كانت تقدّم مباشرةً على الهواء. ولا أنسى كيف كنت أقف وراء زجاج الاستديو أراقب الأستاذ عادل مالك يقدم برنامجه (سجلّ مفتوح)، وكذلك الأمر بالنسبة للراحل نجيب حنكش. كان الإعلام يُصنع مباشرةً أمام عيني وكنت منبهرة بما يحصل أمامي».

أكثر ما تتذكره كابي لطيف، التي هاجرت من لبنان إلى فرنسا منذ عام 1986 عملية تأهيل المذيعين: «كانوا يوجّهوننا ويعلّموننا قواعد الإطلالة والأداء في لقاءات نُجريها مع مدير البرامج في تلك الفترة ألبير كيلو وكذلك مع كلود صوايا وإبراهيم قعوار. لم تكن الأمور تجري إلا وفقاً لنهج معين تتبعه المحطة على المستوى المطلوب. وكان التواضع سيد الأجواء بين جميع الزملاء فلا صراعات داخلية تشوب العلاقات بيننا. كل ما كان يشغلنا هو حب المهنة والتفاني بها… كذلك احترام المشاهد كان ضرورة، فهو صاحب القرار الأول والأخير في وضع برمجة المحطة كي تلائم تطلعاته. أمور كثيرة شكّلت ركيزة لشخصيتي الإعلامية، وأنا محظوظة كوني عشت تلك الفترة مع الكبار».

أيضاً من الوجوه التي تحولت إلى رمز من رموز تلفزيون لبنان المذيعة سعاد قاروط العشّي، حتى إن جيلاً من الإعلاميين المعاصرين تأثر بها وحاول تقليدها فكانت قدوة له. وتقول لـ«الشرق الأوسط» في حوار معنا: «تلفزيون لبنان محطة أساسية في حياتي المهنية. إنه يعني لي الكثير… كان بيتي وعائلتي وشغفي. كبرت وترعرعت في أحضانه، تبادلنا العطاءات لنحو 30 سنة. دخلته وأنا في التاسعة عشرة من عمري، فتحول إلى ركيزة لمهنتي». وعمّا إذا هي راضية اليوم عن اللغة العربية وطريقة إلقائها من مذيعي نشرات الأخبار؟ تردّ: «سأكون صريحة وأقول إن الساحة لا تخلو من أربابها في هذا المجال. لكن هناك فوضى كبيرة في أسلوب التقديم واحترام اللغة، وقلّة تعرف قيمتها».

نجوم تلفزيون لبنان لم يمروا مرور الكرام، لا على المشاهدَين، اللبناني والعربي، ولا على الساحة الإعلامية ككل. نخبة من هؤلاء رحلوا أمثال عرفات حجازي ونهى الخطيب سعادة وإيلي صليبي. وبينهم من يعاني من المرض كعادل مالك، وآخرون يعيشون بين أفراد عائلاتهم وصار عندهم أولاد وأحفاد.

جاندارك أبو زيد أحد الوجوه التلفزيونية المعروفة في تلفزيون لبنان منذ الستينات، بادرتنا عندما التقيناها: «علاقة مميزة كانت تربطنا بعضنا ببعض، ولا نزال حتى اليوم نتواصل. كل ذكرياتنا كانت جميلة فيها الكثير من الألفة والودّ. تلفزيون لبنان مدرسة علّمت أجيالاً من الإعلاميين الذين تفرّقوا إثر إقفاله وتوزّعوا على مراكز مرموقة في صروح إعلامية كثيرة. فوقفوا وراء نجاحها واستمراريتها وكانوا بمثابة عمودها الفقري». وأردفت: «كان تلفزيون لبنان قدوة للساحة الإعلامية العربية. يأتي فنانون من مختلف البلدان ليصنعوا مجدهم من خلاله». وعن أكثر الإعلاميين الذين كانوا يلفتونها في تلك الفترة، قالت: «الراحل إيلي صليبي كان مميزاً بقلمه وحضوره وصوته. تربطني بعائلته علاقة وطيدة وأنا عرّابة أولاده».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى