لقاح الصحافة* رشا الأطرش

النشرة الدولية –

المدن –

منذ أن أعلنت نقابة المحررين بدء إعطاء لقاح كورونا للمسجلة أسماؤهم لديها، الأسبوع المقبل، بدا الصحافيون اللبنانيون وكأنهم في مواجهة مع مواطنيهم. لكن، ليسوا هم من وضعوا أنفسهم في بقعة الضوء هذه. ولا هم المسؤولون عن تشريع حساباتهم الاجتماعية لشتى صنوف التقريع واللوم، بل والاتهامات والشتائم! حتى أنهم لم يطالبوا، منذ البداية، بجعلهم من “أولويات التلقيح”. لكن هذا ما حصل ويحصل.

وبعيداً من التجريح وتطاول بعض قليلي الإخلاق والوعي، يمكن القول إن مسألة اللقاح فتحت نقاشاً حول المهنة في لبنان. بدأ الأمر بأسئلة مباشرة أولية من نوع: هل الصحافيون أولوية فعلاً؟ لماذا؟ هل يتساوون بالعاملين في القطاع الصحي، أو حتى يحلّون بعدهم مباشرة في سلّم الاحتكاك بمخاطر كورونا والأحقية باللقاح؟ فماذا، مثلاً، عن شبان “الدليفري”، الذين يدعمون صمود الناس في منازلهم خلال فترات الإقفال العام، يحتكون بكثُر، ومداخيلهم لا تغني من جوع، كي لا نقول كمّامات ذات فاعلية ومعقمات للأيدي؟ هل معيار المهنة، برمّته، مقبول؟ أم أن معيارَي السن والهشاشة الصحية يجب أن يكونا الوحيدَين؟ وهل المراسلون الميدانيون والمصوّرون مجبرون فعلاً على النزول إلى الشارع ودخول المستشفيات والتواجد في شتى أشكال التجمعات لإنجاز التقارير والتغطيات؟ أم أنهم يستطيعون رفض هذا العمل، أو ربما تنفيذه “من بُعد”؟.. وأكثر من ذلك، ماذا عن المحسوبيات ومنتحلي الصفة؟!

هذه الأسئلة، وغيرها الكثير، بدت منضوية تحت مظلة من قوسين: الأول، هل يؤدي الصحافيون، بوجودهم في “الخارج الموبوء”، خدمة للناس والمجتمع؟ وفي زمن كورونا، على غرار الأطباء والجسم التمريضي؟ والقوس الثاني، كيف تم تظهيرهم فجأة على أنهم ينافسون آباءنا وأمهاتنا والمرضى من أحبائنا، على الصحة والحياة؟

وتحت المظلة، بقوسيها، تبدو الإجابة واضحة لمن يريد أن يراها: الديناميات اللبنانية (السياسية، الاجتماعية، الثقافية،..) هي ذاتها التي تتحكم في هذا القطاع، مثلما ترخي بظلالها على قطاع الطبابة وسواه. بعض الصحافيين، المستقل، ومَن كانت خلفه مؤسسات، محترم وذو مناقبية، والبعض الآخر دون المستوى. البعض أساس في إيصال أصوات الناس، وتحريك النقاش العام، وتسليط الضوء على تجاوزات السلطة والحث على المحاسبة، والبعض الآخر ليس بالضرورة كذلك. ونعم، البعض لا يملك رفض النزول للتغطية، ونزوله ضروري يعتمد عليه المواطنون، فيما البعض الآخر “يقتحم” غرف المستشفيات للمزاودة والاستعراض. أما مَن وضعهم في موقف وكأنهم ينافسون كبار السن والفئات الأكثر عرضة للخطر في مواجهة الوباء، فهي السلطة؟ الوزراء المعنيون الذين ربما يحاول بعضهم تدبيج دعاية “أحبكم يا رعية وزارتي” عبر الصحافيين وعلى حساب غيرهم. والسياسيون والأحزاب، وفروع السلطة المسماة “نقابات”، لا سيما نقابة المحررين والمجلس الوطني للإعلام اللذان لا يمثلان الجسم الإعلامي اللبناني، لا من حيث الانتساب والعدد، ولا من حيث الدفاع الفعلي والفاعل عن حقوق أبناء القطاع. بل إن تشكيلتهما نفسها، كما هو معروف، منافية للديموقراطية والشفافية، ومحابية لشروط الزبائنية السياسية والطائفية نفسها التي خربت البلد، على ما علمنا وذقنا جميعاً.

هكذا، وفي الغياب شبه التام للدولة المتفسخة والمنهارة وفاقدة الشرعية والثقة، وفي ظل مثل هذه “الهيئات الناظمة” للعمل الصحافي و”الممثلة” للصحافيين بأكثر الأشكال رثاثة وبؤساً وريبة، يبدو الشك سيد الموقف إزاء جهة مسؤولة، منتخبة وموثوقة، تُصنّف، مع المؤسسات الإعلامية، الصحافيين والمصورين، بين مراسلين ميدانيين يحتكون بمخاطر الجائحة، وبين عاملين من المكاتب والبيوت أو إداريي المؤسسات الإعلامية. والحال إن أحداً لا يسعه إطلاق كلمة فصل موثوقة في بطاقة صحافية مزورة (ولنا في قضية بطاقات حيدر الحسيني مثال حيّ!). وهذا وضع لا تعانيه، بهذه الفجاجة، نقابات الأطباء أو الممرضين أو المحامين أو المهندسين. كما أن كمية اللقاح الواردة أصلاً قليلة، والكميات الإضافية الموعودة ما زالت في عِلم الغيب (طالما أنها لم تصل بعد). والناس أصلاً متوجسون من حاكمين ومتنفذين وسوق سوداء وقطاع خاص مفتوحة شهيته على الاستيراد والتوزيع. متوجسون من “ريما وعادتها القديمة” في المحسوبيات والتلاعب وقلة الكفاءة في التعاطي مع ملف اللقاحات والتلقيح بشكل يساوي بين المواطنين، ولا يغلّب إلا الأولويات الفعلية والموضوعية.

هكذا، وجد الصحافيون أنفسهم في موقع الدفاع عن النفس وممارستهم لمهنتهم، بل وتبريرها، أو الدخول في متاهات نقد بعض العمل الإعلامي في المستشفيات والشوارع، وهو نقد ضروري، لكن ليس في سياق التفكير في خطة التلقيح ضد كورونا! وجدوا أنفسهم في موقف أخلاقي مستجد، كالفيروس الوبائي تماماً! وأن عليهم القول إن لهم أهلاً في البيت يخافون عليهم أيضاً، وإنهم يرفضون أخذ اللقاح، ويربأون بزملائهم أخذه إلا مَن كان مسناً أو ذا وضع صحي معين. وكما عند كل مفترق طرق في الدرب اللبنانية وخنادقها، يصبح الركّ على “الأخلاقيات الفردية”، في غياب معايير واضحة وصلبة، دولتية أو نقابية. وفي مواجهة فساد قائم فعلاً أو محتمل، مفقودٌ الأمل في لجمه ومحاسبة المسؤولين عنه، من البطاقات الصحافية المزورة التي قد يستفيد أصحابها من الحال الراهنة من دون أن يعترفوا بذلك أو يواجهوا حملة تأنيب، وصولاً إلى صفقات لقاحية يتخوف منها -وعن حق- معظم اللبنانيين الذين لم يروا من هذه السلطة أداء قويماً منذ عقود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button