ثرثرةٌ في الحبِّ – 24 ثلجٌ ليس كمِثلِهِ ثلجٌ* د. سمير محمد أيوب

النشرة الدولية –

ظُهرَ آخرِ يومٍ، من أيام السنة الماضية، كنتُ في الضفة الشرقية للبحر الميت في غور الأردن. كان الطقس دافئاً حين أتممتُ عملي. جلستُ على شرفة المنزل ، مُيَمِّماً وجهيَ شرقا، شطرَ جبال السلط وعجلون. أرقبُ إجتيازَ عاصفةٍ رعدية في سمائها. كانت غيومُها وهي تعبر آفاقها، رخاميَّةً بيضاء فَرَماديَّة، ومن ثم وردية وذهبية، حتى غدت حمراء. كانت المَرْبَعَنيَّةُ فوق تلك الجبال، تنفثُ برْدَها ثلجا يجوسُ العظام.

كنتُ مع فنجال قهوتي، مُنْهَكا مُنحازا للهدوء، مُتصالِحا مع  الصمت، حين سمعتُ صوتا هاتفا بشيءٍ من عتَب: إشتقتُ لَكْ، وأعلمُ أنَّكَ تشتاقني. ألا تُرافِقَني الليلة كعادتِنا كلَّ عام، إلى ثلجٍ حنونٍ ليس كمِثْلِه ثلجٌ؟ أم أنَّكَ هرمتَ، وكفى الله المؤمنين القتال ؟!

أيُّها المُختَلِف، لا أظنك ممن يهرمون حدَّ السكون. وإن ضيَّقَتِ السنون عليك ضِفافَك، لن تتقطعَ حِبالُك، ولا ينامُ قلبُك. نصفي هُنا قيدَ الانتظار، حيث لا هُنا إلا أنت. وهناك ما تبقى، حيث اعتدنا أن نكون.

أعلمُ الكثيرَ عن خيباتِك. لا تَلُمْ أحدا. فلا يلومَنَّ إلا ضعيف. تمرَّد وانتفِض على تفاصيل غُبارِها. إعجنْ رمادَك بالتراب والثلج، وتعالَ أُلْقِي بقميصيَ على حُزْنِكَ، ليبتسم ويبصر في حضرتي. فقلبيَ ما زال كما عهدته، ما إبتسم لرجلٍ سواكَ، ولا نادى. فلا يُنادَى منَ الرجالِ إلاَّ قليلٌ. وأنا يا شيخيَ، ما اعتدتُ أن أناديَ سِواك.

أحسستُ بنورٍ يُشرقُ فرَحا، في ثنايا نفسي. وبرغبةٍ عارمة للقائها. فما زِلْتُ كلَّما أوغَلْتُ في وِحدة، أو أعْيانيَ سقوطٌ، أو خَبا شيءٌ مِن ضَحِكي، أجدُها تُوصيني بالإنتباهِ لنفسي، وبالكثيرِ مِما لا يُحكى ولا يُكتب. فهي وسط زحام الأقنعة، رغم رحيلها البعيد، ترتقي معارِجي ، وتحتلُّ مساحةً بين رمالِ ذراعيَّ وصخرِها.

سرعان ما جهَّزْتُ سيارتي، وسافرتُ إليها. إرتقيتُ جبالَ عجلون في شمال الأردن، عبر وادي كفرنجة أو ” وادي الطواحين ” كما يسميه البعض. على البُعدِ لاحت قلعةُ عجلون، منتصبةً بردائها الثلجي، وجُلُّ الطُّرقات من حولها معطلة. لألْقِيَ السلامَ على القدس وصرحَ الشهيد في الكرامة، تابعتُ السيرَ بين الأبراج الطويلة، وصعدتُ عبر دهاليزالقلعة إلى سطحِها.

وسطَ الأودية المغطاة بأشجار الزيتون والبلوط والسنديان والتفاح، تابعتُ عبر الطبيعة الساحرة، عبور بلدات عرجان والراجب وعنجرة ورأس منيف، حتى وصلت إلى واحدةٍ من أجمل الأماكن السياحية في الأردن، محمية عجلون، ذات التنوع الحيوي، حيث إعتدنا قبل رحيلها، أن نُمضيَ معاً، ليلة رأس السنة.

لم ألْحَظ طول الطريق مَصاعِبَها . لم تكن المسافةُ مع الشوقِ مُرهقة . لا أذكر كم من الوقت قد مضى إلى أن وصلتُ. ولكنه بدا لي طويلا. يُطرِّزُ كتِفَ المحميّة أشجارٌ كثيفة. يتوسطها بيتٌ ريفيٌّ قديمٌ ، ورِثتُهُ عن أمي يرحمها الله. كلُّ ما فيه بسيطٌ جميلٌ. إرتوى بثلجٍ ناصعِ البياض، ليسَ كمِثْلِه ثَلْج. تغمرُه رهبةُ الصمت، وتغشاه رائحةُ حطَبٍ، تفوح مع الدخان المتصاعد من بواري بيوت متناثرة بعشوائية من حوله، آوى أصحابها مبكرين. في باحة بيتي، شجرةُ بلوطٍ ضخمة، أغصانها ضفائرُ إمراة غجرية، تحيط بصخرةٍ محفورٍ فيها مقعد يتسع لإثنين. إعتدنا أن نرقب منه، إطلالة كل عام جديد.

وأنا أغذُّ الخُطى بإتجاه مقعدنا في الصخرة، كانت قدمايَ تغوصان في عميق الثلج. ما أن وصلتها، كانت قدماي قد تخدَّرتا. هناك، على أضواء الكهرباء المُتعَبَة، وحفيفِ الشجر المُثقَلِ بالثلج، وإيقاعِ الريح، وعبقِ الزعتر البري والميرمية، وكلِّ ما في المشهد من تضاريسٍ بنيناها معا، تعزَّزَ حنيني إليها. إلتقيتها، ألقيتُ السلام على روحها. إحتضَنتُ بين راحتيَّ ملامحَ وجهها، تحسسته، عانقتها، حتى توهجت أميرتي بينَ يدي، وبات الصمت من حولنا، هو كل الأصوات .

وحين أمْسَت عجلونُ، هي وأنا ومقعدنا، سمِعنا دقَّ مهباشٍ، وشمَمْنا ريحِةْ هِيل، وترنيماتا فيروزية: يا رَيْتْ فِيها تِحِمْلَك وِتْرُوح، عابْلاد ما تِعْرِف حَدا فيها. وأظنني همستُ لطيفها: كيفَ حالُ العَسَليُّ في عينيكِ، أما زالَ فاتِناً كآخرِ مَرَّةٍ رأيتُكِ فيها؟! وإنْ تمادى بيَ الظنُّ أقول: أنَّها تضاحَكَتْ وهي تُجيب: كحالِ الشيبِ في رأسِكَ يا شيخي . أما زالَ ناعما كآخر مرَّة جاسَت فيه أصابعي تُبعثِره، ونحن نلتقط الخبيزة والعكوب والبابونج ؟

مع قرعِ أجراسِ منتصف الليل، كان قلبيَ يُتَمْتم: سَلامٌ على الذّين لا تُبدِّلُهُم حَياةٌ، وَلا تُفرِّقُهُم طُرُقٌ، ولا تُغيِّرُهمَ ظَروف. وهمستُ للريحِ قبلَ أن آوي لفراشي: أخْبِرْها يا رِيحْ يا طايِر، أني قد فقدتُ نفسي منذُ غابت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى