من هدير الحدث” لإقبال الشايب غانم: لكلّ مقام مقال* يوسف طراد
النشرة الدولية –
“النهار –
أقبلت الأستاذة إقبال الشايب غانم، فاخترقت احتضار المواطن وموت الأدب بالنقد البنّاء، لم تدْبر أو تتأفف برغم هزائم الوطن المكدّسة من قعره حتّى فضائه. فغنمنا كتابًا بعنوان “من هدير الحدث” الذي صدر حديثًا عن “دار سائر المشرق” للنشر. جمعت فيه مقالات في السياسة والاجتماع، كانت قد نشرتها في عدّة صحف منها “النهار” و”السفير”.
الكتاب قسمان، حوى أربعة وستين مقالًا مع المقدّمة، توزّعت على مئة وخمس وسبعين صفحة. انطلقت بلغّة أدبية سلسة ترفة، لكنها ضمّت مع تتابع السرد فسحات من التعبير الحاد الذي لا يهادن. ويعود سبب ازدياد حدّة التعابير بحركة متسارعة، إلى ورود المقالات حسب تواريخ كتابتها ابتداء من العام ألفين وواحد حيث لم تكن الأحداث قد حملت جميع خطايا الزمن الرمادي الذي مرّ به الوطن. إلى العام ألفين وسبعة عشر الذي عانق نبؤة الانهيار المؤجل التى بانت بوادره في أيامنا هذه.
تحوّل يراع الكاتبة مشرط عمل على طاولة تشريح، شرّحت به قضايا تتعلق بالعنف، الإرهاب، التسلّط، انحدار الوطن والمجتع، الرأسمالية الشرهة، الحروب الغامضة الساخنة والباردة. وغيرها من الأمور التي أثّرت سلبًا في مجتمعات شرقنا الحبيب وإيجابًا في مجتمعات شمال الكوكب الأزرق.
نقدت الكاتبة عبر مقالاتها، بنفس الإيقاع الذي نقدت فيه الأديبة غادة السمّان في كتابها “مواطنة متلبّسة بالقراءة”، مع فرق في نوع المحتوى والتشابه في المغزى. ليأتي نقد السمّان للمسرح والأدب المحلي والعالمي. أمّا غانم فأتت مواضيع نقدها متعددة: سياسية، أدبية، اجتماعية، وطنية، انتخابية، ومسلكية. مع خارطة طريق للوصول إلى حلول ناجعة، تُعتق المجتمعات من قيود وهمية لم تُدركها، كبّلتها بها المصالح العليا واضعة لها أقفالًا محكمة. لنرى أن لكل مقال من الكتاب موضوع المطالعة وجه شبه مع مقالات السمّان، فكما نقدت في كتابها “مواطنة متلبسّة في القراءة” مسرح اللامعقول: “أنا أتعب، فأنا موجود!”. أسهبت غانم في وصف عذابات شعوب العالم الثالث وتعبها، وعلّلت وكشفت أسباب شقائها. وقابل وصف السمّان للامبالاة غريب (كامو) في مقطع (الصيف بطل هذه القصص) وصف للامبالاة السياسيين بالذين يسوسونهم في معظم أبواب كتاب (من هدير الحدث).
تواطأت الكاتبة مع الحقيقة في نقد نهج مجلس الأمن، ولم تهادن عزلة جدرانه، خشية انفلاش خبث قراراته، التي تخطت (الفيتو) جرحًا مفتوحًا على أوطان معذّبة، لغاية في نفس المسيطرين عليه: “…وتتحول مطرقة شرائع حمورابي إلى مسواك يستعمله أعضاء مجلس الأمن بعد حفل غداء على هامش اجتماعاتهم!”. ترقرق حبرها حزنًا فوق ألم الشعوب المنكوبة، فارتقت مع حواسها ملامح ثورة. كي لا يبقى حلم الشعوب بين الخناجر والأقدار: “الإنسان هذا الموقت الدائم الصابر الدوؤب، الساقط المتألم، الطريق المبحر، في سعيه المحتوم لتأمين سبل العيش، ينسى أن يحيا. يعيش قيده حتى الثمالة، وفي هذه الدوامة تضيع حرّية الحياة!”. لم تبتسم لشبح أنيق، قادم من خلف البحار على ضفاف الوقت الحائر، حتى لا تصبح الديموقراطية رداء يكشف عورة المجتمعات الشرقية عند انهيار مبادئ الأمبراطورية الأميركية: “اعتنقوا (الدين) الأميركي وسلّموا الجسد والروح لاحتلاله الثقافي”.
في مكان آخر حيث “سيل الحرّية وظمأ الديموقراطية” ظهر جليًا الهمّ في ممارسة الديموقراطية الهجينة “التي ملأت رحاب الساحات وزكّمت أونوف الشعب الصابر”، لأن الأمكنة خوت من الحلول، فقد استوطنتها ساستنا “على طريقة نحن أو لا أحد”. فقد أسهب الاستعمار المخفي الذي استعمر العقول وفرض ثقافة (الكاتشاب والهامبرغر) في دق إسفين بين أطيافنا، بسبب اعتلالنا بمرض عضال، لم يعالجه النظام الطائفي، الذي عمل على نشر ثقافة أنانية الحقوق. كما لم ينشر مبادىء الوفاق والإلفة التي هي غاية الأديان، خلافًا لأنظمة الدول التي تعطي “ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، كما “حصل في دول عديدة لا تتمتع بواحد بالمئة مما يجمعنا، فهي تختلف في اللغة والإثنية والدين ومع كلّ ذلك وحّدها تراب الوطن”.
لم تَخَفْ الكاتبة في غابة البشر، التي حوت الوحوش الأنيقة المظهر، والشياطين المفرطة بالأخلاق، بل ذهبت بعيدًا إلى حدود التشخيص الصحيح، لكن العلاج مرفوض: “وإذا صحّ أن يكون للتقهقر الاقتصادي اللبناني شعارًا، فشعاره هو أصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب! تحت هذا العنوان نعيش دولة ومؤسسات وأفرادًا…”..
ذكر التاريخ أن آخر وزير استقال من تلقاء نفسه دون إقالة أو انتحار بعد الاستقالة، كان على عهد الفرعون منتوحوتب رع، أمّا اليوم فقد “اكتشف الشّاب العربي أن كلمة استقالة من المنصب موجودة في القاموس العربي أيضًا” فكان الربيع وثوراته التي أعادت الشعوب إلى الشتاء الظالم لتراوح الخطى هناك.
عالجت الكاتبة بواقعية شؤون المرأة والإعلام والثقافة والحرّية والعلم ومشاكل السير وتداعيات الإرهاب وسلوكه فكشفت منبع منظّماته. لكنها سرحت بقلمها الدامي نحو أشواك الديموقراطية وقد اعتلتها ورود المهرجانات الانتخابية التي انتشت من المياه الملوّثة بالنفاق والوعود الكاذبة. إذا كان الأستاذ مالك أبي نادر، قد جمع قوانين انتخاب المجلس النيابي، منذ عهد المتصرفية إلى ما قبل قانون النسبية الأخير، ضمن كتاب مبوّب تبويب محترف، مما يتيح الوصول بسهولة إلى الكمّ الكثير من المعلومات الواردة، من ناحية ظرف كل قانون وعدد المقاعد التي فرضها، وتوزيعها على الطوائف والأقضية، ونسبة المقترعين لدى كل طائفة. فقد أتت مقالات الكاتبة إقبال غانم في شجون وشؤون القوانين الانتخابية الافتراضية، منذ بلورة ما يسمى قانون فؤاد بطرس إلى القانون الأرثوذوكسي، بوقًا للحقيقة، كاشفة لأسباب عودة الجالسين على المقاعد، بسبب جينات متأصلة في نواة الناخبين، المبنية على الكيدية المشبعة بالطائفية والعقائدية وقوانين العشائر الشفهية المرتبطة بأهواء زعيم كل عشيرة. عن وصفها الكيدية في عملية الانتخاب يحضرنا قول للدكتور أنيس فريحة، إذ ورد في كتابه (القرية اللبنانية حضارة على طريق الزوال): “في كل قرية لبنانية حزبان أو ثلاثة أحزاب متطاحنة، وقصّة اللبناني الفقير الذي أشعل اللحاف الوحيد الذي يملكه، والذي يغطّي به ابناءه ليلًا ابتهاجًا بفوز حزبه، يعرفها كل لبناني. عندما سئل إذا كان يعرف الحاكم أو النائب الذي فاز قال: لا، ولكن نكاية بجاري!”.
ورد في الكتاب سؤال: “هل من نظام عالمي جديد؟!” وذلك عند نتيجة تصويت أكثر من نصف البريطانيين على الخروج من الإتحاد الأوروبي. “وتتساءل أين الخلل، هل في الشعب أم في المسؤولين أم في النظام…”. إضافة في شرح الأسباب التي وردت في السرد، تحضر أمامنا رواية (برام ستوكر) عام ألف وثمانمئة وسبع وتسعين عن الكونت (دراكولا) أسطورة مصاص الدماء، والدعوة إلى كل ما هو خارج إطار العلاقة الجنسية الطبيعية بين زوج وزوجته، (دراكولا) القادم من ترانسلفانيا التي تعتبر أرض (إكزوتيكية) وغير معروفة للبريطانيين. هذه الرواية ولّدت لديهم الخوف من الغرباء لضرب قيم الأمبراطورية التي لا تغيب الشمس عن أراضيها. من هنا جاء التصويت للخروج من الإتحاد الأوروبي كون الجينات الفكرية الموروثة لديهم مطبوع فيها الخوف من الغرباء.
كاتبة لم تختر مواضيعها وطريقة تقديمها للقراء، بل أن المواضيع هي التي اختارتها وفرضت واقعها على قلمها. فكان أدبها محور الإنسان على اختلاف نبوغه وجهله. القارىء الشغوف التّواق إلى الحقيقة والمعرفة ينهل من حروف مقالاتها بالرغم من هيمنة المواقع الإلكترونية التي تتنوع في مواضيعها على الصحف الورقية.
صالت وجالت إقبال في مكان وزمان كل حدث، فقد منحتها ثقافتها المكتنزة عينًا إضافية للنظر في قضايا البشر، متأسفة على كل هذا الدّم الذي لم ينضب يومًا. فهل طمحت إلى تغيير الواقع أو تثويره؟ الأرجح إنها طمحت إلى الإنسان الأفلاطوني الكوني وإلى الغد الأفضل من خلال مقالات ضمّت القلق على المصير.
كتاب أعطى القارىء قيمة مضافة، في جعله شريكًا حقيقيًا بجهد الكتابة المبذول. حيث لا يكتفي بمرور الكرام على المناشير الوادرة فيه، بل مُنح إضافات ثقافية بغاية الأهمية، تجعل العيون التي تتابع السطور، تجدد فكر الناظر من خلالها بغية تجديد نفسه. فقد اخترقت الكاتبة عقل القارىء بفلسفتها البسيطة الجميلة الخاصّة، حيث كانت كتاباتها من ضمن أدب النقد المطوَر للأحداث، الذي علل وأخرج الأفكار من التحنيط الإعلامي إلى براح الكلمة الهادفة.
إقبال الشايب غانم، لم تفصل مقالاتها عن الواقع، الذي ينبع من خصب الخيال النقدي الهادف، لأنه واقع تحكمه الصراعات والحروب والتخلف والإرهاب. فكان لها “لكل مقام مقال” مقتنصة بمهارة صيادٍ الحاضر الأليم المقروء بعين العقل، والمترجم على صفحات الجرائد.