ماذا تعني مطالبة “التدويل” في لبنان؟ وليد فارس

النشرة الدولية –

منذ سنوات تعلو شعارات ما يسمى “التدويل” في لبنان تارة، وتنخفض أحياناً، حسب من في السلطة، ونوع الأزمات، والواقع الإقليمي، وميزان القوى داخل ذلك البلد الصغير، وفي هذه المرحلة بالذات، ترتفع الدعوات من جديد، لا سيما بعد أن أعلن البطريرك الماروني بشارة الراعي، أخيراً، بدعم من بعض المثقفين السنة والدروز، ومعارضي “حزب الله” بين الشيعة، أنه بات ضرورياً “على المجتمع الدولي أن يخلص لبنان من السلاح غير الشرعي”، وقد توسعت دعوات قوى المجتمع المدني لدعم هذا النداء، الجديد القديم، بينما رفضها “حزب الله”، واعتبرها “تهديداً لاستقرار البلاد وأمنها”، ما يدل على أن المعسكرات السياسية في لبنان منقسمة حول هذا الملف، وأحد هذين المعسكرين مصمم على محاربة التدويل أمنياً وحربياً مهما كلّف الأمر، ونظراً لدرامية هذا الطرح، وتجاربه السابقة، وطرحه المتجدد من قبل الكتلة المعارضة لـ”حزب الله”، والتغيرات الإقليمية، والوضع الدولي الحالي، بما فيه الأجواء في واشنطن، فلنراجع ما يعني التدويل عامة، وما يعنيه بالنسبة للبنان اليوم.

هناك دعوات، يميناً ويساراً، وشعارات تطلق من كل صوب وجهة، حول التدويل، والحياد، والفصل السابع، وقوات دولية، وقرارات مجلس أمن، والمجتمع الدولي، ومحاكم دولية، وعقوبات قانونية ومالية، خليط من رؤوس أقلام مقتبسة من أكثر من نصف قرن من وقائع مثيلة في مواقع عدة من العالم بما فيها الشرق الأوسط ولبنان نفسه. فما حقيقة الوضع، باختصار شديد؟

“التدويل” دولياً

التدويل “Internationalization”، بالمعنى العام النظري في العلاقات الدولية، هو أن يوضع ملف معين بين يدي دول عدة أو المنظمات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة، إذاً، الحركة الأولى في إطار أي “تدويل” هي سياسية، ودبلوماسية، وإعلامية، أي أن يدعو طرف ما، سواء أكان دولة أو جهة غير حكومية “المجتمع الدولي” لكي يتحرك باتجاه حل معضلة لدى دولة أو أكثر، أو لدى مجموعة قومية، أو إثنية، أو دينية، أو إزاء كارثة طبيعية أو إنسانية. وأسباب السعي إلى التدويل عديدة بكثافة الأزمات المحلية، الإقليمية والدولية، ولها أشكال كثيرة حسب المرحلة الزمنية أو نوعية الأزمة المطروحة، إذاً، ليس هناك نوع واحد من الأزمات التي تستدعي التدويل، فكل الأزمات يمكن تدويلها، بإرادة من يطرحها، لكن هناك قاسماً مشتركاً لكل هذه الحالات، ألا وهو ضرورة أن يطرح أحد ما، طرف ما، مجموعة ما، أو المؤسسات العالمية، آلية كهذه، بكلام آخر، لا يمكن أن ينطلق التدويل من دون أن يطلقه أحد ويعمل بجهد على تجسيده فعلاً وعملياً، إذ لا توجد هيئة متخصصة في التدويل الأوتوماتيكي، كما يظن عديد من الناس في العالم، أو خصوصاً في الشرق الأوسط، ليس هناك في العالم فريق لا عمل له إلا مراقبة الأزمات عبر الكوكب وإحالتها إلى التدويل مباشرة، فحتى مجلس الأمن يحتاج إلى إحالة لملف ما، عبر أمانته العامة، أو أحد أعضائه، لمناقشات صعبة، لتصويت، لتجنب حق النقض، للوصول إلى قرار ما. أضف إلى ذلك أن هناك أشكالاً عدة من “التدويل” تحت مستوى مجلس الأمن، ومن بينها المنظمات الإقليمية، كـ”الناتو”، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الأفريقي، وفي الماضي، حلف “وارسو”، والجامعة العربية، ومن بين المبادرات الدولية السريعة، سواء أكانت إنسانية أو أمنية، القوات متعددة الجنسيات، أو التحالفات ضد الإرهاب، وما شابهها، وهي إما أن تحصل على تفويض من مجلس الأمن، أو لا.

التدويل إذاً ليس نزهة آلية تأتي من تلقاء نفسها، بل عملية معقدة، ربما الأكثر تعقيداً في العالم، وتحتاج إلى جهود جبارة، دقيقة، طويلة، وأهم شيء أنها تلبي مصالح عديدة، وليس فحسب مصلحة من هم بحاجة إليها، بعبارة واحدة، هي ليست “كوني فكانت”.

خبرة لبنان مع التدويل

اختبر اللبنانيون، كغيرهم من شعوب المنطقة، حركات وتدخلات دولية في شؤونهم منذ القرن الـ19 في جبل لبنان، وبعد ذلك الانتداب الفرنسي الذي كان بحد ذاته بقرار من المجتمع الدولي وقتها، أي رابطة الأمم “Society of Nations”، وبعد ذلك، انتمت الجمهورية اللبنانية في 1945 إلى الأمم المتحدة، وباتت لها سيادة وطنية، إلا أن تركيبتها الداخلية، والأطماع الخارجية، وحروب المنطقة، لعبت دوراً سلبياً في حياة هذه الجمهورية منذ حربها الأهلية الأولى في 1958، فبعد عقد ونصف العقد، انفجرت حربها الأهلية الكبرى في 1975، فقامت مبادرة سلام إقليمية أولى، بمباركة دولية، قادتها السعودية لوقف الحرب واستتباب الأمن، بمساعدة “قوات ردع عربية” في 1976، إلا أن نظام حافظ الأسد استعمل “الغطاء العربي الدولي” لمحاولة السيطرة على الفلسطينيين، والمعسكرين المسلم والمسيحي، كل على حدة، فأرسل قواته لتحتل لبنان، فانفجرت الاشتباكات في البلاد مجدداً وتدريجياً، واجتاحت إسرائيل جنوب لبنان في مارس (آذار) 1978، وبطلب من الحكومة اللبنانية، أصدر مجلس الأمن القرار 425 يدعوها للانسحاب.

وفي السنة نفسها بعد حرب مدمرة بين قوات الأسد و”القوات اللبنانية” صدر في أكتوبر (تشرين الأول) القرار 436، بدعوة دول صديقة وموافقة الحكومة يدعو لوقف الحرب، وفي صيف 1982، وبعد حرب مدمرة بين إسرائيل، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وسوريا في لبنان، صدر القرار 520، الذي دعا “كل القوات الأجنبية لمغادرة لبنان”، وكان بطلب من الحكومة اللبنانية.

التدويل منذ 1990

بعد اجتياح قوات الأسد وحلفائها وزارة الدفاع والقصر الجمهوري في 13 أكتوبر 1990، وعلى الرغم من اتفاق الطائف عام 1989، الذي رعته السعودية، سيطرت قوات النظام على مؤسسات الدولة اللبنانية، بالتالي بات مستحيلاً أن تطلب أي حكومة لبنانية أي قرار دولي ضد مصلحة النظام أو “حزب الله” في لبنان، ولكن بعد 14 عاماً تمكنت مجموعات من المهاجرين اللبنانيين، لا سيما في أميركا، أن تقنع إدارة الرئيس بوش بإصدار قرار دولي لإخراج القوات السورية وتجريد “حزب الله” من سلاحه، كما نجحت هذه المجموعات في إقناع الأعضاء الآخرين في مجلس الأمن بعدم إصدار “فيتو” ضد قرار كهذا، الذي صدر في سبتمبر (أيلول) عام 2004، تحت رقم 1559، وكان القرار الدولي الوحيد الذي عارضته السلطات اللبنانية التي كانت تحت نفوذ دمشق وطهران منذ 1990، وتنفيذ البند الأول فيه، أي انسحاب الجيش السوري، وكان التدويل الوحيد في لبنان، بطلب من مواطنين من دون موافقة حكومة بيروت، إلا أن البند الثاني، أي نزع سلاح “حزب الله”، والميليشيات، لم ينفذ، ونتج عن هذا “التدويل” سلسلة من القرارات الأخرى، بما فيها القرار 1701 في عام 2006، للسيطرة على الحدود، وقرار إقامة المحكمة الدولية في قضية اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري وآخرين.

هذا السيل من القرارات المتعددة، وغير المسبوق، انبثق عن القرار 1559 الأم، وتعزز بعد ثورة الأرز في عام 2005، ووافقت عليه حكومة “14 آذار”، المعارضة لإيران، وتوجت هذه القرارات بإقامة جهاز تنفيذي بإدارة السفير ترى رود لارسن لتنفيذ القرار، إلا أن انقلاب “حزب الله” على الحكومة واجتياحه بيروت والجبل، وتشكيل سلطة حليفة له بعد مؤتمر الدوحة في عام 2008، أنهى عصر “التدويل” ضد “حزب الله”، فباتت القرارات حبراً على ورق، ولا سيما أن إدارة أوباما كانت قد دخلت زمن مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران.

إدارة ترمب والتدويل

مع وصول ترمب إلى البيت الأبيض في 2017، عادت حظوظ التدويل للمسألة اللبنانية تعلو في واشنطن، لا سيما بعد انسحاب الإدارة من الاتفاق النووي في مايو (أيار) 2018، ووضع الحرس الثوري على اللائحة الأميركية للإرهاب في أبريل (نيسان) 2019، وكانت هذه المعادلة مواتية للبنانيين لكي يطالبوا بتدخل دولي بقيادة واشنطن لتطبيق القرار 1559، في وقت كان وزير الخارجية مايك بومبيو قد شكل فيه تحالفاً دولياً للضغط على إيران، ونسق السفير براين هوك اجتماعاً واسعاً في وارسو في هذا الاتجاه. وعلى الرغم من أن قراراً جديداً  حول لبنان، تحت الفصل السابع، لم يكن ممكناً من دون الاصطدام بـ”الفيتو” الروسي، فقيام تحالف متعدد الجنسيات كان قيد الدراسة.

الكرة انتقلت إلى ملعب المعارضة لـ”حزب الله” داخل لبنان، وانفجرت ثورة شعيبة واسعة داخل لبنان في أكتوبر 2019، في موازاة انتفاضتين في العراق وإيران، واستمر “الحراك الثوري” أشهراً عدة، وكان أوسع وأطول من انتفاضة 2005، وقد وصلت أصداؤه إلى العواصم العالمية، وباتت صورته لدى الرأي العام العالمي ذات رصيد ثقيل، وكان من الواضح أن “حزب الله” خشي أن تؤثر “الثورة” على الخارج، وتأتي بديناميكية التدويل، فاتحة الباب لتحالف واشنطن الدولي ضد إيران أن يشبك مع الحراك ويتدخل في لبنان ضد الحزب، وكانت المعادلة “مجتمعاً مدنياً مع مجتمع دولي” لمواجهة الميليشيات والإرهاب في 2019، تقريباً، موازية للمعادلة نفسها عام 2005، إلا أن بعض الإخفاقات أجهضت هذه المعادلة الحاسمة، وتتوزع المسؤوليات في كل الاتجاهات:

أولاً: ركزت قيادات الحراك على نغمة “الإصلاحات الجذرية لمؤسسات الدولة” أولاً، بدلاً من أولوية نزع سلاح “حزب الله”، وهذا كان خطآً استراتيجياً كبيراً، فالقوى الكبرى عالمياً لا تتحرك في مجلس الأمن من أجل ملف إصلاحات في أي بلد، بل تتحرك إذا كانت هناك أزمة أمنية أم سيادية في بقعة ما.

ثانياً: رفضت نخبة الحراك المركزية في بيروت أن تنفتح على إدارة ترمب لتعمل معها على التدويل، لارتباط جزء من هذه النخبة عاطفياً وعقائدياً بخصوم ترمب، كأوباما، وبايدن، وساندرز، الذين كانوا في المعارضة الأميركية وقتها، ففضلوا ألا يعملوا مع الولايات المتحدة مباشرة، ما دام ترمب في البيت الأبيض، ومن دون أميركا لن يدعو أحد مجلس الأمن للتحرك.

ثالثاً: عندما بدأت القوى اللبنانية الواعية لأهمية التدويل للخروج من تحت سيطرة الميليشيات بالتحرك للمطالبة بالقرار 1559، كان الوقت قد دهمها، والظروف بدأت بالتبدل، ففي بداية 2020، تفجرت أزمة كورونا في العالم، وانحسرت اهتمامات واشنطن في مكافحة الجائحة، ثم تفجرت التظاهرات العنيفة في المدن الأميركية، وبعدها جاءت الحملات الانتخابية، فالأزمة في انتقال السلطة، فإعلان انتصار بايدن.

إدارة بايدن وتدويل أزمة لبنان

كما نرى منذ أسابيع، فإن إدارة الرئيس بايدن مستعجلة في التوجه إلى طاولة المفاوضات الأوروبية مع طهران لتخطيط طريق العودة إلى الاتفاق، في اليمن، وتضغط لوقف عمليات التحالف العربي، وفي العراق، تتأنى في الرد على هجمات الميليشيات الإيرانية، أما في لبنان، فالإدارة الجديدة توصي بحكومة جديدة “جامعة” لتدفع بالإصلاحات.

لا أرى إشارات لإدارة بايدن باتجاه حشد “طاقات دولية” لنزع سلاح “حزب الله” الآن، والنافذة التقليدية لتدويل تقوده أميركا الآن قد أغلقت في هذه المرحلة، هل يعني ذلك أن فرصة عمل دولي لإنقاذ لبنان انتهت؟ التدويل الجديد بالنسبة لأي آلية تدويل للمسألة الأمنية في لبنان، على الفئات التي تصبو إليها الآن، وفي الظروف الإقليمية والدولية القائمة، يجب أن يكون هناك وعي جلي بالآتي:

– السلطة الحالية في بيروت تحت سيطرة “حزب الله”، وهي بالتالي لن تطلب أي مبادرة دولية لن تكون في مصلحة الحزب، بل سترفض، وربما تتصدى لأي مبادرة تفرض من الخارج، وستتعاون مع روسيا لإسقاط أي تصويت في مجلس الأمن إذا كان مرفوضاً منطهران.

– إدارة بايدن لن تمس ملف التدويل في لبنان إذا كان ذلك يعني صداماً مع إيران وتهديداً للاتفاق.

– أي “تدويل مالي” كـ”مؤتمرات عالمية” لمساعدة الاقتصاد اللبناني، أو “لمحاربة الفساد” من دون نزع سلاح الميليشيات هو بمثابة “مورفين” لن تأتي بأي حل فعلي للأزمة الحقيقية.

– الاكتفاء بالمطالبة بقرارات دولية جديدة، أو تنفيذ القرارات السابقة، أو طلب الفصل السابع، أو الحياد، من دون جهود تحاكي الواقع الحالي ستتصدى لها إيران، ويواجهها “حزب الله”. إذاً ما العمل بالنسبة للبنانيين السياديين؟

برنامج عمل جديد

اللبنانيون، داخل وخارج بلادهم، عليهم أن يحاكوا الواقع، ويفهموه، على معارضتهم أن تتوحد، وتتنظم، وتشكل شيئاً شبيهاً “بحكومة ظل” كتلك الموجودة في بعض الدول الديمقراطية، وذلك للتمكن من مخاطبة العالم والتعبير عن نيتهم باللجوء إلى “المجتمع الدولي”.

ما دون ذلك لن يكون هذا المطلب على أي طاولة مفاوضات، وعلى كل التحركات الشعبية أن تركز على التدويل أولاً، وليس آخر، قبل أي مطلب آخر، ليفهم الخارج ألا حل في لبنان، إلا مع سحب سلاح الميليشيات، ولو جزئياً في مرحلة أولى. فإذا رأى العالم، كما كان الوضع مع تيمور الشرقية ومستعمرات سابقة، أن لبنان لن يرتاح قبل حل مشكلة الميليشيات المسلحة، بطريقة أو بأخرى، أياً كانت الحكومات في الغرب، سيجد مخرجاً، ولو مرحلياً للأزمة.

صحيح أن إدارة ترمب كانت في حال مواجهة مع إيران، بالتالي كانت في موقع أفضل لتدويل الأزمة، ولكنها لم تفعل لأسباب كثيرة، أولها أن اللبنانيين لم يطالبوا علناً بالموضوع، عندما قامت التظاهرات الكبرى. فالقوى الكبرى لا تضيف لنفسها مشاكل وجهوداً لوجه الله، أما إدارة بايدن، فعلى الرغم من تأنيها في أي موضوع يعرقل الاتفاق، فهي أيضاً تتأثر بالوقائع على الأرض، ومن أهم هذه الأخيرة، أن يرص “الفريق السيادي” صفوفه، ويعبر عن التزامه بمطالب هكذه، وأن يتواصل مع واشنطن وسائر أعضاء مجلس الأمن، بالإضافة إلى التحالف العربي ودول الاغتراب اللبناني.

فهذا كان الطريق الذي أوصل إلى القرار 1559، ولا طريق غيره، وفي الخلاصة، التدويل لا يحدث من تلقاء نفسه، بل يجب العمل له، وعلى اللبنانيين الذين يريدونه حلاً أن ينتقلوا من “الرووم سيرفيس Room Service ” إلى “السيلف سيرفيس Self Service”.

الأمين العام للمجموعة الأطلسية النيابية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button