التقارير الإعلامية الأميركية حول اجتياح الكابيتول أسهمت في بث الكراهية والخوف* باتريك كوبيرن

النشرة الدولية –

يُدرج اليوم اجتياح مبنى الكابيتول في 6 يناير (كانون الثاني) في خانة واحدة مع 11/9 [هجمات الحادي عشر من سبتمبر] كعمل حربي استهدف الديمقراطية الأميركية. لا عجب إذن أن التغطية الإخبارية لهذا الاقتحام جاءت على نحو يشبه الدعاية (البروباغندا) الحربية. هكذا، صارت كل الحقائق، سواء كانت صادقة أم كاذبة، موجهة في الوجهة نفسها، وذلك بغرض شيطنة العدو وكل من تسول له نفسه أن يقلل من طبيعته الشيطانية هذه.

وجرى تصوير احتلال رعاع مؤيدين لترمب مبنى الكابيتول لثلاث ساعات على أنه “انقلاب”  أو “تمرد” شجع الرئيس السابق على حصوله. ويُنظر إلى الأشخاص الخمسة الذين سقطوا خلال الاجتياح على أنهم دليل على مؤامرة عنيفة قد دُبرت سلفاً لقلب نتيجة الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة. والفيلم الذي جرى توليفه من مقاطع عدة وعرضه المدعون خلال إجراءات المُساءلة، يعطي الانطباع بأن ما جرى في الكابيتول كان شبيهاً بمشهد معركة في فيلم “برايف هارت” Braveheart (ويعني قلب شجاع ويحكي قصة صمود أحد القوميين الاسكتلنديين في مواجهة الاحتلال الإنجليزي لبلاده).

لكن، هل من المهم معرفة ما حصل فعلاً؟ يشعر كثير من الأشخاص بأن كل ما يسيء إلى ترمب وأتباعه الفاشيين، هو أمر جيد بالنسبة لهم. وقد يعرب هؤلاء عن شكوكهم سراً بأن بعض الروايات المتداولة حول مؤامرة ترمب ضد أميركا مبالغ فيها كثيراً، بيد أن الرئيس السابق الذي اخترع 30573 كذبة خلال السنوات الأربع الأخيرة، ليس في وضع يسمح له على الإطلاق بانتقاد خصومه لمجافاتهم الحقيقة الملموسة. ويجادل خصومه هؤلاء بأن الرئيس السابق يمثل تهديداً غير مسبوق للديمقراطية الأميركية، وذلك حتى حين يصبح من الواضح أن ما شهده مبنى الكابيتول فعلاً في ذلك اليوم كان مختلفاً اختلافاً جذرياً عما اختارت بعض وسائل الإعلام أن تورده في تقاريرها.

 

لكن ما تنقله التقارير الإعلامية مهم، وخصوصاً حين تجازف بالمبالغة في تصوير العنف أو تعميق مخاوف الناس وشعورهم بأنهم عرضة للتهديد. وإذا كانت حكومة الولايات المتحدة حقاً هدفاً لتمرد مسلح، فإن هذا سيجري استغلاله لتبرير القمع، كما كانت عليه الحال في أعقاب 11/9، وليس فقط ضد أصحاب نظريات المؤامرة من الجناح اليميني. وحين تتحول إلى أدوات حزبية لنشر الأخبار الزائفة، تقوض وسائل الإعلام صدقيتها. وتناول قصة إخبارية عملاقة كتلك المتعلقة باجتياح مبنى الكابيتول أمر شائك. إذ تجري تغطيتها بادئ الأمر بشكل مبالغ فيه قبل أن نعرف الحقائق، ثم تصبح التغطية أقل مما ينبغي عندما تبدأ الحقائق بالظهور. وكانت هذه حال تغطية الإعلام الأميركي. لكن حتى في ذلك الوقت، بدا أن الاجتياح كان تمرداً مسلحاً غريباً للغاية.

ويبدو أن رصاصة وحيدة قد أُطلقت خلال الأحداث العاصفة من جانب عنصر الشرطة الذي أردى آشيل بابيت قتيلة، وهي سيدة من أنصار ترمب وشاركت في اقتحام الكابيتول. وإن عدم إطلاق النار بشكل كبير في بلاد مثل الولايات المتحدة الغارقة في بحر من البنادق والمسدسات، هو أمر لافت فعلاً.

في هذا السياق، توفي خمسة أشخاص خلال عملية السيطرة على مبنى الكابيتول، وهذا هو الدليل الرئيس على وجود نية جرمية لدى مثيري الشغب. غير أن بابيت التي قتلت برصاص الشرطة كانت في عداد الضحايا، وبينهم ثلاثة آخرون من الرعاع المؤيد لترمب، الذين توفي أولهم جرّاء الإصابة بسكتة دماغية، والثاني مات بنوبة قلبية، والثالث لقي حتفه حين سحقته الحشود عن طريق الخطأ.

ويعني هذا أن شخصاً واحداً فقط، هو براين سيكنيك الشرطي الذي يعمل في الكابيتول، قد سقط على أيدي أنصار ترمب، ويُزعم أنهم قاموا بضربه حتى الموت بواسطة عبوة خاصة لإطفاء الحريق fire extinguisher . وفي 8 يناير (كانون الثاني)، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” قصتين حول وفاته، نقلاً عن مسؤولين رسميين لم تذكر أسماءهم، وصفوا كيف أن مثيري الشغب المؤيدين لترمب ضربوه على رأسه بمطفأة الحرائق مما أدى إلى إصابته بـ”جرح بليغ في رأسه تدفقت منه الدماء”. وقيل إنه نُقل في أعقاب ذلك على عجل إلى المستشفى، حيث وُضع على جهاز إنعاش، غير أنه فارق الحياة في اليوم التالي.

وانتشرت هذه القصة المصورة حول العالم، وظهرت على نطاق واسع في وسائل إعلام منها صحيفة “اندبندنت” وهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، و”يو إس توداي”. كما أن وكالة أنباء “أسوشيتد برس” قد نقلتها بشكل منفصل. وأضفت القصة هذه صدقية على فكرة أن أنصار ترمب من الغوغاء كانوا مستعدين للقتل، حتى مع أنهم لم يقتلوا سوى شخص واحد. كما أنها عززت صدقية الفكرة القائلة بأن مايك بنس، نائب الرئيس، ونانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب، وأيضاً ميت رومني عضو مجلس الشيوخ قد نجوا بجلدهم قبل أن يعدمهم الرعاع الهائج بثوان فقط.

ومع ذلك، فإن قصة مقتل الشرطي سيكنيك، أخذت تتفكك شيئاً فشيئاً على امتداد الأسابيع الثمانية الأخيرة من دون أن يوليها العالم أي أهمية تذكر. أما كيف حصل ذلك، فقد روى غلين غرينوالد، وهو صحافي استقصائي ومحام دستوري، ما حدث على نحو مفصل ورائع، وخلُص في النهاية إلى أن “المشكلة في هذه القصة تكمن في أنها كاذبة كلياً”.

كان من الغريب على الدوام عدم وجود شريط فيديو للهجوم على سيكنيك، على  الرغم من تصوير كل حدث وقع خلال أعمال الشغب. وكان الراحل قد بعث برسالة نصية إلى أخيه في وقت لاحق من ذلك اليوم،  بدا من خلالها وكأنه كان يتمتع بمعنويات عالية. ولم يصدر أي تقرير بعد تشريح الجثة يفيد بأنه قد تعرض للإصابات المزعومة. وبصورة حاسمة، عمدت صحيفة “نيويورك تايمز” بهدوء إلى “تحديث” القصتين اللتين كانت قد نشرتهما أصلاً حول جريمة قتل سيكنيك، معترفة بأن معلومات جديدة قد ظهرت من شأنها “التشكيك في السبب الأولي لوفاته الذي ذكره مسؤولون مقربون من شرطة الكابيتول”.

وباعتبار أن هؤلاء المسؤولين كانوا المصدر الوحيد للقصة الأصلية، فهذا في حد ذاته يُعد اعترافاً بأنها غير صحيحة، علماً أن القراء قد لا ينتبهون لذلك.

واشتملت أيضاً التقارير الخطأ عن اقتحام مبنى الكابيتول على قصة حول شخص كان يحمل أربطة بلاسيتكية، وفُسر ذلك كدليل على خطة مفترضة دُبرت لاحتجاز القادة السياسيين، مع أن تلك الأربطة كانت في الحقيقة قد أخذت من على طاولة في الكابيتول لمنع الشرطة من استخدامها، وذلك بحسب ما قال ممثلو الإدعاء. وهذا مهم لأنه يعود في جزء منه إلى تراجع مستوى التحقيقات الإعلامية عموماً، وفي الولايات المتحدة خصوصاً. وترمب هو من أعراض هذا التراجع  ومن أسبابه في آن، فهو كان بارعاً في الماضي بقول وفعل أشياء بصرف النظر عن مدى ابتعادها عن الحقيقة أو سخافتها، وهي كانت عادة مسلية وتستقطب الانتباه. هكذا أمكن الرئيس السابق ضمان مستوى تأييد مرتفع لنفسه وللقنوات التلفزيونية التي أحبته والتي كرهته، على حد سواء، واشتمل ذلك على فائدة متبادلة بينه وبينها.

وتعني هذه العلاقة التكافلية بين ترمب ووسائل الإعلام أن الأخيرة تقدم قدراً أقل من التغطية، تاركة إياه وأنصاره ليقدموا الفعل، فيما توفر وسائل الإعلام المعلقين ممن تمرسوا في خوض المناظرات الحاقدة مع بعضهم بعضاً. وحتى المراسلون الأميركيون الميدانيون قد حولوا أنفسهم إلى معلقين مستعدين للتفوه إلى ما لا نهاية بعبارات فارغة من أجل تلبية احتياجات نشرات الأخبار على مدار الساعة.

وقد وفرت الأحداث التي شهدها مبنى الكابيتول دليلاً دامغاً على تدني مستوى الصحافة الأميركية، إذ كان روبرت مور مراسل قناة “آي تي في” البريطانية في واشنطن، هو المراسل التلفزيوني الوحيد الذي شق طريقه إلى مبنى الكابيتول في خضم  الاضطرابات التي شهدها. وقد أعرب لاحقاً عن دهشته من أن “طاقم تلفزيون يتيم من بريطانيا كان الفريق الوحيد الذي استطاع التقاط تلك اللحظة التاريخية– يا له من أمر غريب”، لا سيما نظراً إلى أن القنوات التلفزيونية الأميركية تتمتع  بموارد هائلة.

نعم، هذا مستهجن، لكنه ليس مفاجئاً. وقد أظهر اجتياح الكابيتول، كحدث إخباري، أنه عندما يتعلق الأمر بنشر “حقائق زائفة”، فإن وسائل الإعلام التقليدية قد تكون أكثر فاعلية في أداء هذه المهمة من وسائل التواصل الاجتماعي التي غالباً ما يجري تحميلها مسؤولية إشاعة هكذا “حقائق”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى